المفتون بالشرق دون أن يراه

3 فبراير 2023

حينما أوكل إليه رسم أحد أسقف متحف اللوفر، اختار “أنغر” أن يرسم الجناح المصري، حيث ترك جداريته الخالدة “تمجيد هوميروس”، اللوحة التي أثارت عاصفة من الإعجاب والدهشة والصدمة والجدل. ليعلن فيها هذا الفنان انتماءه للشرق والثقافة الشرقية شاهراً إبداعه بوصفه أحد أكبر الفنانين في العالم. إنه المستشرق الذي لم يزر الشرق إنما افتتن به لونياً وموضوعاً وثقافةً، إنه الرسام الفرنسي جان أوغست أنغر.

ولد جان أوغست دومينيك أنغر Jean Auguste Dominique Ingres  في مونتوبان جنوب فرنسا، لوالدٍ يعمل في الزخرفة الفنية، الأمر الذي ظلّ كأثرٍ أول في حياة أنغر الفنية. التحق بأكاديمية الفنون في تولوز وكان تلميذاً ناجحاً ومميزاً اهتم به وأحبّه كبار الفنانين في الأكاديمية مثل ديريان وفيفيان.

بحسب الكثيرين، يُنسب المذهب “الاتباعي” في الفن إلى أنغر فهو مؤسسه والمنادي به، كما ينظر الكثير من النقاد إليه بأنه أحد المساهمين والمؤثرين الأوائل بالرمزية والفنون الجديدة، وهو ما يفسر سرّ إعجاب بيكاسو وديغا ورينوار بأعماله، يقول بودلير: “إن السيد أنغر يفرض نفسه على سكان هذا العالم بواسطة حميمية فخمة، أما المختلفون والضجرون وآلاف العقول الرهيفة الباحثة دوماً عن الأمور الجديدة وحتى الحديثة جداً، فسوف يسحرهم بغرابته”.

بعد أن رسم أنغر سقف اللوفر تتالت عليه العروض لرسم الجداريات، فكلّف بعملٍ فنّي عن القديس سان سامفوريان في كاتدرائية أوتون، العمل الذي ظل فيه أنغر سبع سنوات بحالها، إلا أنه حينما انتهى منه في العام 1834 كان صادماً للنقاد والزائرين وشهد موجة سخطٍ عارمة، مما أبعد أنغر عن الرسم تحت نوبة إحباط سبع سنوات أخرى تحوّل فيها إلى تدريس الفن في ميدتشي الفنية قبل أن ينتقل إلى باريس ويغير فيها عالمه.

 

الرحلة إلى باريس.. مراراً

سافر أنغر سنة 1797، إلى باريس مسبوقاً بسمعته البرّاقة كرسامٍ استثنائي فاستطاع أن يكون أحد أعضاء محترف جاك لويس دافيد. واتصل أيضاً بالدوق دورليان الذي رعاه واهتم به، وقد قام أنغر برسم عدة لوحات عائلية وشخصية لدورليان، تعدّ اليوم من التحف الفنية.

وظلت عقدة رسم الكنيسة “الفاشل” تلاحقه فلم يوافق أنغر على تزيين كنيسة الرحمة في باريس حينما طُلب منه، بل قام برسم نماذج تماثيل القديسين ورسم بنفس الوقت أعمالاً يبين فيها دور الأسرة المالكة في رعاية الدين وبلغ عدد هذه الرسومات سبعة عشرة عملاً فنياً، وظل مبتعداً عن الرسم الكنسي حتى عام 1844 حينما زين كنيسة القديس لويس مقدماً ثمانية تصميمات يعبر فيها عن روح الدين وقداسته.

غادر أنغر باريس نحو روما عام 1806، وتوقف في طريقه إليها في فلورنسا كي يتأمل جداريات مازاتشيو Masaccio. واستقر في فيلا دي مديتشي في روما من سنة  1806 إلى سنة 1810، متمتعاً هناك بمنحة “جائزة روما الكبرى” التي فاز بها ولم يستطع الوصول إليها إلا بعد فترة. وظل فيها حيث رسم لوحات عدة سميت بالمرحلة الرومانية ومنها لوحة “مستحمة فالبانسون” التي تزين اللوفر أيضاً،  وصورة شخصية للسيدة دوفوساي ولوحة “جوبيتر وتيتس”.

ثم عاد أنغر إلى باريس وتزوج من صانعة القبعات مادلين شابل، العام 1813 ورسم آنذاك ثلاث لوحات تعدّ قمة في إنتاجه الفني: صورة شخصية للسيدة دوسينون ولوحة «الوصيفة الكبرى» في متحف اللوفر ولوحة «باولو وفرانشيسكا».  وفي سنة 1829 عُيّن أستاذاً في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس.

أنغر كان رمزاً صارخاً للحياة المفعمة بالعمل والنشاط، فحتى سنواته الأخيرة ظل ينتج أبدع الأعمال، ولنا أن نعلم أن لوحتين من أهم أعماله رسمها وهو  في الثمانينات من عمره وهي النبع والحمام التركي التي تعد إحدى تحف العالم. وكلتاهما من مقتنيات اللوفر اليوم. بل أكثر من هذا، فقد تزوج مرة أخرى من السيدة راميل.

 

الولع بالشرق

يقول عنه مونور: “أنغر هو من رسم الشرق الساحر والكنيسة الشرقية بألوانها الدافئة، لهذا هو مستشرق دون أن يزور الشرق، فلا تكاد تخلو له لوحة من أثر ثقافته المولعة بالشرق وأساطيره ولهذا نجد أن أهم لوحاته التي خلّدها الزمان كانت عن الشرق”. نعم، صدق مونور، إن أجمل لوحات أنغر هي الشرقية منها، مثل لوحة “فينوس الأنادومية” الشهيرة التي رسمها العام 1848 والموجودة في متحف شانتي، ولوحة “العذراء في القربان” الموجودة في متحف اللوفر، ولوحة “الحمام التركي”، كما تعد لوحة “المسيح وسط الأطباء” قطعة عبقرية فائقة الدقة، حيث أظهر فيها أنغر كل قدراته في الرسم والتصوير الحركي، وهي اليوم من مقتنيات متحف مونتابان.

لقد استلهم أنغر من الشرق معظم مواضيع رسوماته الكبيرة، فقد كان لهوميروس والمآسي الإغريقية والمصرية أشد التأثير لاحقاً على أنغر، فوضع عشر مخطوطات لأنغر عن نصوص هوميروس وحياة دافائيل، أيضاً دراسته الهامة التي أسماها أوديب وأبو الهول. وقد أعاد في هذه الأعمال مواضيع التاريخ للتشكيل بصياغة جديدة.

وتأتي لوحة “تمجيد هوميروس” التي صممها أنغر لسقف إحدى القاعات المصرية في اللوفر سنة 1827 على رأس أعماله الشرقية، العمل الذي لقي استقبالاً حافلاً منقطع النظير لدى أنصار الأسلوب الاتباعي إذ رأوا فيه صرخة مناهضة للوحة دو لاكروا De Lacroix “موت سردانابال”، وكان أنغر قد أخذ على عاتقه الدفاع عن الاتباعية منذ النقاش الذي دار بين أنصاره وأنصار دولاكروا إبان “صالون 1824”.

كما تعد لوحته الشهيرة “المحظية الكبرى” التي استلهمها من قصور السلاطين الأتراك من درر لوحات المستشرقين، وربما تكون أكثرها استنساخا وتقليداً، وفيها تبدو امرأة متكئة على أريكة وممسكة بمقشّة من ريش الطاووس وتنظر نحو الأفق بنظرة فيها الكثير من المشاعر والأحاسيس.

لقد ترك أنغر وراءه مئات الأعمال الفنية الخالدة، وعشرات الأعمال لمتحف اللوفر العظيم، وترك لنا سراً ساحراً غامضاً بولع أوروبي بالشرق ومفرداته دون أن يطأ ترابه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.