محو الهوية.. الآداب والفنون أول الضحايا

10 فبراير 2024

في كتاب “كيف دمرّت الخوارزميات العالم” لكاتبته كايل تشايكا ورد هذا المقطع الخطير: “منذ عقدين، كنت أستخدم تطبيق يلب  Yelp للعثور على المطاعم والشركات المحلية حولي، وهو برنامج مصمم باللونين الأحمر والأبيض وكان مصدراً موثوقاً نظراً للتوصيات والمراجعات التي تساعد بتصنيف المقاهي، أينما كنت في نيويورك أو برلين، في كيوتو أو ريكيافيك، وكنت أكتب “hipster Coffee Shop” في شريط البحث كاختصار لأن خوارزمية البحث تعرف دائمًا بالضبط ما أعنيه بهذه العبارة. لكن ما الذي جرى؟ لقد تبنت جميع هذه المقاهي جماليات متشابهة وقدمت قوائم “منيو” مماثلة، على الرغم من الانفصال الجغرافي الشاسع والاستقلال التام عن بعضها البعض، فقد انجرفت المقاهي جميعها نحو نقطة النهاية نفسها. كان الامتداد الهائل للتشابه صادمًا وجديدًا جدًا فاق فكرة الملل”!

في الثقافة الشعبية يُسأل: هل تعلم لماذا الأزواج القدامى لهما نفس الملامح؟ الجواب: لكثرة التحديق ببعضهما بعضاً. وهذا قد يجيب نوعاً ما عن تشابه النصوص الشعرية اليوم التي تكتب على الفيس بوك أو تويتر أو غيرها من وسائل التواصل الاجتماعي.

غرف منعزلة (هوم بيج) تحديق متواصل بنصوص محددة، سرعانا ما يتحول إلى (معجم) واحدٍ وتصّور لغوي واحد. إنها عملية تجميل واحدة لوجه واحدٍ متكرر محقون بنفس السيليكون لدى طبيب بعينه (التطبيق الجامع).

فإن كانت المقاهي اليوم هي الأكثر تشابهاً في عصر العولمة الثقافية، إلا أن الفنون جميعها باتت في خطرٍ محدق، من لوحات فنية ومنحوتات وقصائد وألحان.

يروى عن الماغوط إنه لم يكن يقرأ لأحد كي لا يدخل أسلوب شاعرٍ إلى شعره، كان يرتعب من تلك الفكرة، يريد شعره برّياً متوحّشاً.

في حادثة طريفة للصٍّ حاول سرقة الموناليزا من مكان عرضها، قال عن سبب هذا: لا أريد أن تفسد لوحات الرسامين! أنظروا كم أصبح لدينا اليوم من دافنشي مشوّه وموناليزا صامتة كالرخام البارد!

نعم اليوم بات العالم مرعباً من تشابهه ونسخ بعض بعضاً، مساحات العمل المشتركة، عربات الطعام على جوانب الطريق، محال الهمبرغر وأكياس البطاطا، قاعات الفنادق وبهو الاستقبال، الكلمات المتداولة على وسائل التواصل، المنتجات، روائح البلاستيك تفوح من كل شيء والرداءة تلمع في كل شيء. لعل كلمة “الرداءة” كلمة ثقيلة بعض الشيء، حسن دعنا نستبدلها بـ”عدم الأصالة” طيب!

هنالك نظرية تؤكد أن العالم انقلب جمالياً عام 2010، أي مع تفّشي ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات والمنصات. فعلى سبيل المثال لاحظت ساريتا غونزاليس، وهي أكاديمية جمالية من جنوب إفريقيا، أن مدينة كيب تاون تبدلت بنيتها في أواخر عام 2010، وذلك عندما كانت ساريتا تعمل هناك في منظمة أبحاث التمدن. حيث خالفت حتى تاريخها والأصداء الاستعمارية والمحظورات التاريخية التي كانت مستمرة عبر الزمن، وظهرت المقاهي البسيطة المتشابهة في كل مكان وكأن تلك المقاهي هي “مساحة يمكن الوصول إليها عالميًا. يمكنك القفز من بانكوك إلى نيويورك إلى لندن إلى جنوب أفريقيا إلى مومباي ويمكنك أن تجد نفس الشعور. ذلك ليمكنك الاسترخاء في تلك المساحة لأنها مساحة مألوفة.”

حسنٌ هذا منافٍ للفردية وحبّ التفرد والخصوصية وبعيد عن إبراز الهوية الشخصية في وجه العالم السائل. هذا يفسر ربما التشابه في كل شيء. ويشير إلى أن العالم البشري بأكمله تحّول إلى صفة مستهلك واحد له نفس العادات والانطباعات من الصين للبرازيل.

لقد سمح موقع  YouTube، الذي تأسس عام 2005، لأي شخص لديه اتصال إنترنت قوي بما يكفي بتحميل مقاطع الفيديو ومشاركتها. تبعه Instagram في عام 2010 وأنشأ ثقافة أكبر لمشاركة اللقطات من كاميرات iPhone السائدة حديثًا.

الجغرافية والتاريخ إذاً تراجعاً خلف الخوارزميات الجديدة، إنها سيطرة وتأثير جديد لا قبل للأفراد والفردية بمواجهته.

مع بداية الانترنت خاف الكثير من العلماء ورأوا أبعد من فكرة الحلول الرائعة التي يقدمها، فعلى سبيل المثال رأى عالم الاجتماع والمنظّر الثقافي الإسباني مانويل كاستيلز أن العالم بدأ ينحو باتجاه العولمة التشابه والرتابة، وأن أرباب النظام الاقتصادي الجديد يرسمون مخططات لتراجع أهمية ودور الجغرافيا الطبيعية. حيث بات الكيبل البصري وغرف الخوادم موطناً للجميع.

اللا أماكن

في عام 1992، كتب الفيلسوف الفرنسي مارك أوجيه كتابًا بعنوان “اللا أماكن”، والذي درس التجارب الحسيّة للطرق السريعة والمطارات والفنادق، تلك المناطق التي أصبحت متشابهة ومنسوخة في جميع أنحاء العالم. وقد أسمى أوجيه من يرتاحون لهذا النوع “الغجر المعاصرين”! ويصف رحلة رجل أعمال فرنسي من بيته إلى المطار في تاكسي المطار وتسوّقه من السوق الحرّة وصعوده الطائرة وحركات المضيفين وتنبيهات الأمان ثم إلى فندق ما وتسليمه مفتاح الغرفة والديكور الممل والرتيب ذاته. كتب أوجيه: “في اللا أماكن، “يجب أن يكون الناس دائماً في منازلهم.. وأعني خيمتهم التي لا ملامح لها”.

تقول الأكاديمية غاياتري سبيفاك: “إن العولمة لا تتحقق إلا من خلال رأس المال والبيانات”. البيانات؟ اللعنة، هذا يعني أنني تحولت إلى رزمة بيانات بالضرورة، وأتدفق بشكل سائل بين المحيطات كسلعة لا مرئية، فيعرف زوكربيرغ نوعي المفضل من النساء والأغاني والطعام وأين أصرف نقودي وغير هذا.

سأختتم بهذا، سميت الألفية بين 2010 – 2020 بأنها الألفية الوردية، وفي تلك الألفية تم افتتاح مطعم في بروكلين لوجبات الإفطار المتأخر، Carthage Must Be Destroyed، قرطاج هذا، كان خالياً من الطوب وكانت سباكته مكشوفة بتصميم عدواني، إلا أن كل شيء في الداخل طلي باللون الوردي، الباب، الطاولات، الكراسي، البلاط، والأطباق.

بعد نشره على انستغرام، توافد الناس بشكل هائل إليه وانتشرت صوره بشكل كبير بين المؤثرين، أراد الجميع الذهاب إلى “ذلك المطعم الوردي”. في هذه الحقبة، انتشر لون الـ  “Tumblr pink”، على كل شيء، فطرحت Nike الرياضية أحذية وردية، وأديداس كذلك، منتجات مكياج Glossier وحقائب سفرها تحولت إلى اللون الوردي، وطرحت أجهزة Apple” الذهبية الوردية” كجزء من هذا الاتجاه.

ولكن (مهما كنت وردياً، أنت في يد الخوارزميات، أنكا أونغوريانو، مالكة ومؤسسة شركة Beans & Dots، وهي شركة قهوة في بوخارست برومانيا، تقول، دفعتني الخوارزميات وبدأ الناس يزورون المقهى بناء على التقييمات الجيدة وبدأت أظهر على خرائط جوجل، ولكن شعرت بالإحباط عندما شعرت أن المنصة تحرمني من قدرتي على الوصول إلى جمهوري عندما بدأت في بيع القهوة عبر الإنترنت، بدا أن فيسبوك وإنستجرام يخنقان انتشاري ما لم أشتري إعلانات وأعزز أرباح شركة التواصل الاجتماعي الخاصة. بدا الأمر وكأنه ابتزاز خوارزمي: ادفع رسومنا وإلا فلن نقوم بترقيتك.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.