حارب في هذه الحياة.. حارب ولو طواحين الهواء!

24 فبراير 2024

وقعت في أسر رواية دونكيشوت منذ بداية عمري ولم أخرج منها حتى لحظتي هذه وقد تجاوزت الخمسين! إن دونكيشوت المتوهم الواهم العازم، هو بطل من لحم ودم، بطل بكل معنى الكلمة، بأخطائه وعثراته. ولعله في مكان ما يتقاطع مع ثربانتس مؤلف تلك الرواية ويتقاطع معي ومعك في هذه الحياة التي تشبه المهزلة إلى حدٍّ بعيد..

فكّر معي: كيف يمكن لعملٍ أدبي أن يغير حياتك؟ هل ظلّ أحد الأعمال الأدبية التي قرأتها يخرج من كلامك وتصرفاتك ويمدّ يده لنظرتك نحو الحياة في كل مرة؟ لنفترض هذا، هل بإمكانك حقاً أن تحدّد ما تسرّب إلى أعماقك من كل تلك الكتب وظل في جوفك يتردد فأصبح روايتك الخاصة التي تجمعت من هنا وهناك؟

بالنسبة لي أستطيع القول إن القراءات المبكرة هي أكثر حظوة في حضورها ورسوخها في ذهني ومختبري اللغوي والحياتي، ذلك لأنها صادفت قلباً خالياً فتمكّنت كما يقول الشاعر. وليست كل القراءات الأولى بالطبع، الأمر يتعلق أيضاً بالمزامنة والتجهّز وعدة ظروف تواطأت ليقضي عليك كتابٌ ما في لحظةٍ ما. عنّي أعتقد أن بؤساء فيكتور هوغو و1984 جورج أورويل ودونكيخوته ثربانتس هي الكتب الأكثر فتكاً بي على مختلف مراحل عمري.

لقد مستني رواية دونكيخوته في العمق كما مسّت كل من قرأ هذا العمل الإنساني المتجاوز لفكرة الرواية والأدب. إنها قصة كل قاصري الموهبة والعطايا والحظ، قصة أي درويش وساذج قرر أن يغيّر العالم بما لديه من قدرات محدودة وقرارات لا تمت إلى المنطق بصلة، فوجد طريقاً وصديقاً يؤمن به ومضى في الحكاية محاطاً بلغة مرعبة تتأرجح بين أقصى الضحك وأقصى البكاء متجسداً كل واحد من الطرفين بحرفة غير متناهية. لقد غيرتني دونكيخوته إلى الأبد، وفي كل مرة أقرأها من جديد على تغير ظرفي ومعالجتي للقراءة والتلقّي، لا يتزعزع من مكانتها شيءٌ بل يزيد. إنها عملٌ صالح لكل الأزمان والأمكنة والشخصيات والتجارب. وهنا أحاول ان أكتب عن ثربانتس فتغلبني دونكيخوته وأحاول أن أكتب عن دونكيخوته فأميل إلى ثربانتس.

دونكيخوته، العمل الهائل الذي اختصرته القراءات المتعجّلة بمشهد الرجل وهو يحارب طواحين الهواء ظناً منه أنهم عمالقة، رغم أهمية بقية المشاهد والتفاصيل المهووسة بالإحباط وسوء التخطيط وضعف الحيلة والقدرات العقلية والبدنية، ولكن لا بأس! كان يكفيها هذا المشهد لتعيش إلى الأبد. إنها قصتنا جميعاً بترجمةٍ أو بأخرى، هذا المشهد الذي يكتبه ثربانتس بالإزميل وبقدرة غير اعتيادية على تحريك سوائل للغة كما يقول بيرت مكاب، هذا المشهد يكفي لأن تعلق بالرواية وكاتبها.

أن تكون من عائلة مؤصلة وعريقة ولكنك فقير، أن تكون مترجماً بالإشارة لأبيك الحلاق الجوال الأصم، أن تقضي عمرك مطارداً ومن مكان إلى آخر، تخوض المبارزات بالسيف والمعارك في البحار، ويعتقلك القراصنة فتباع كعبد وتسجن في مكان ناءٍ لمدة خمس سنوات، لا بد وأنك ستكتب مثل هذه الرواية، أي أن هذا العمل لا يكتبه مثقفٌ كبيرٌ وحسب، بل يكتبه مجرّبٌ كبير، رجلٌ عاش حياة استثنائية دون أدنى شك، ولعله هذا سر ثربانتس بالعموم.

بحسب مواقع إحصاء عديدة، فإن رواية دونكيخوته هي الأكثر مبيعاً في العالم بعد الإنجيل والقرآن وكتاب ماو الأحمر، إذ باعت أكثر من خمسمئة مليون نسخة منذ صدورها عام 1605 حتى اليوم. كما تمت ترجمتها إلى مئة وأربعين لغة. لقد دخلت دونكيخوته على المسرح والأوبرا والسينما والتشكيل والنحت والدراما والحياة اليومية.

وخلال أكثر من أربعمئة عام على ظهور الرواية، ظهرت في مقطوعات موسيقية كثيرة ومسرحيات غنائية وأوبرات، فلحن شتراوس ومندلسون وبيكسيني وبورسيل وساليري مقطوعات تتصل بشكل أو بآخر بدونكيخوتة، من جهة أخرى، أثرت في الأدب الروسي كاملاً وأشاد بها جميع أدباء روسيا الكبار واعترفوا بتأثيرها.

واللطيف أن ثربانتس أراد أن يكون شاعراً وفشل في أن يحقق ما يريد، حتى أنه كتب آخر حياته:

أعمل دائماً بجد وأبقى مستيقظاً

حتى أكون شاعراً

ولكن يبدو أنها النعمة التي لم يمنحني إياها رب السماء.

منذ أيام لمحتها في مكتبتي.. خفت من العودة عليها وأنا في هذا العمر، لم يتبق الكثير من طواحين الهواء.. ولا حتى الهواء!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.