شجر اللوز بدلاً من الثلج.. “لقد هنّا هنا”!

2 مارس 2024

لم يكن الأمير هاري الإنجليزي هو أول من فاضل بين الحكم والحبيبة واختار حبيبته، لدينا في التاريخ العربي قصةٌ دراماتيكية أكثر من بريطانيا وما جاء فيها! إنها قصة المعتمد بن عبّاد الذي فعل الأعاجيب ليرضي الرميكية، حبيبته التي لا ترضى أبداً.. فعُزل ونفي!

ما إن يأتي الربيع ويتفتّح زهر الأشجار، حتى يدفعني دفعةً واحدة إلى تاريخنا التليد والمجيد والرشيد وإلى آخره من الانزياحات اللفظية التي تشير إلى ما كنا عليه من عظمة ومجد، ولكن في حقيقة الأمر كل هذا الكلام الذي بات فعل ماضي، يدفعني دفعةً واحدة نحو بيت الرصافي الذي يقول:

ومن ادعّى بالمجدِ سابقةً وعاش غير مجيدٍ.. فهو متهّم!

لزهر اللوز والربيع ارتباط عاطفي لدي بالأندلس وقصة الرميكية وصاحبهاـ تلك القصة التي تندّرت بها كتب التاريخ وتفننت في سردها بصيغٍ مختلفة:

استقرّ الملك للمؤيد بالله، المعتمد بن عباد على إشبيلية كما هو معلوم، وأجرى العلوم والفنون وأطلق يد الشعر والشعراء والموسيقا والموسيقيين. فقد كان شاعراً مجيداً ومولعاً بالقصائد، حتى وأن قصة حبه الخالدة قامت على “نصف بيت” قالته الرميكية. إذ يقال: بينما كان يسير المعتمد يوماً مع شاعره ابن عمار على النهر، طلب منه أن يجزي شطر البيت الذي يقول:

“صنع الريحُ من الماء زرد”

فأرتج ابن عمار ولم يستطع إكماله، ولكن امرأة ظهرت كانت تغسل الملابس على النهر أجزت قائلة:

“أي درعٍ لقتالٍ لو جمد”،

فجمد المعتمد! كانت تلك المرأة “اعتماد” جارية “رميك بن الحجاج” التي اشتراها فصارت تسمى بالرميكية، وقد تزوجها “المؤيد بالله” بعد تلك الحادثة ولشدة هيامه بها غيّر اسمه إلى “المعتمد”! بل وقام بانتحار “سلطوي” إن جاز التعبير، فحقق لها جميع رغباتها ضارباً بالحكم عرض الحائط و”الطين”.

وعلى ذكر الطين، كانت الرميكية تحبّ البذخ واللهو والدلال بشكلٍ مبالغٍ به، وكان المعتمد من أصل تكوينه مبذراً يحب اللهو. ولإرضائها ذات يوم، رآها وهي تقطع الحديقة في يوم ماطر وقد علق الطين بقدميها، فأمر بسحق الطيب ووضعه في غرابيل وبأن يرش عليه ماء الورد ليغطي كل ساحات القصر من أجل الرميكية حتى لا تمشي على طين وتتلوث… الرميكية غضبت منه ذات يومٍ وقالت: “ما رأيت منك خيراً قط”، فأجابها المعتمد: ولا يوم الطين؟ فخجلت منه واعتذرت.

الرميكية رأت الثلج ذات يوم في قرطبة وهو أمرٌ نادر الحدوث، فقالت للمعتمد: يا بخيل، لماذا لا تحضر إليّ الثلج كل شتاء، يا ظالم يا غشوم، أنظر إلى ندف الثلج العالق بالأشجار”.. كانت تبكي بحرقة، فقال لها المعتمد: “لا تحزني يا منية النفس، سترين هذا المنظر كل شتاء”؛ وأمر بزرع أشجار اللوز على كل الجبال لتظهر للرميكية حين تزهر وكأنها الثلوج.

نزوات الرميكية هذه وطلباتها التي فاقت المنطق، كانت ضمن عريضة رفعها العلماء لقائد المرابطين يوسف بن تاشفين (شريك المعتمد في معركة “الزلاقة” الشهيرة التي أبقت الأندلس واقفة بعد انهيارات كثيرة) وأفتوا بأن الرميكية تجرّ المعتمد إلى الاستهتار واللهو، ومن الضرورة عزله وجواز ضمّ ماهو تحت ملوك الطوائف. وهذا ما صار! زحف إليهم “سحالي الصحراء” وأسروهما واقتادوهما إلى المغرب ليدفنا معاً في “أغمات” قرب مراكش.

في أغمات التي عاشت فيها الرميكية دون عزٍّ ولا جاهٍ ولا بطر، قالت قولتها الشهيرة لحبيبها المعتمد: “لقد هنّا هنا”.. لتموت وهي على هذه الحال ويلحق بها المعتمد بعد أشهر.

وهناك، دُفنا في قبرين متجاورين مشغولين من الزلّاج المغربي الملّون تحت قبة حمراء تشبه قبب مراكش، وعُلقت عليه قصيدةٌ كان كتبها المعتمد يرثي نفسه قبل موته يقول فيها:

قـبر الغريب سقـاك الرائحُ الغادي   حقّـاً ظفَـرتَ بأَشلاء ابن عـبّادِ؟

بالحلمِ بالعلمِ بالنُعمى إذ اتّصلَت بِالخَصبِ إِن أَجدبوا بالري للصادي

بالطاعن الضارب الرامي إِذا اقتتلوا بالموت أَحمرَ بالضرغمِ العادي

بالـدهر في نـقمٍ بالبحر في نِعمٍ بـالبدرِ في ظُـلمٍ بِالصـدرِ في النـادي

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.