التسليع الثقافي: قلْ لي كم متابعاً لديك أقل لك من أنت!

17 فبراير 2024

في عام 1997، نشرت مجلةFast  تحقيقاً كان عنوانه:  “The Brand Called You”، جاء فيه النداء التالي: “لا تخلص لشركتك التي ستأكلك لحماً وترميك عظماً.. ابنِ علامتك التجارية الشخصية، إنه الاقتصاد الجديد، ليس هنالك من نجاح وظيفي اليوم يتم من خلال الارتقاء في سلم الشركة الوظيفي، إنما النجاح سيكون من خلال النمو الفردي وتعزيز الذات، دع عنك الأمر.. ابدأ اليوم بـ”تسويق” نفسك، تسويقك “أنت” اليوم.. وإلا.. فإلى الأبد”.

في حينها، بدا هذا النداء غير عصري وغامض ومضحك نوعاً ما بالنسبة لذوي الياقات البيضاء، خاصةً وأن عقد التسعينيات وصف بأنه العقد المهووس بالأصالة والنقاء الفني والقيمي، وهو العصر الذي كانت فيه المحاولات بإلحاح أو الاهتمام الزائد بأي شيء أمراً محرجاً، وكان لفظ “البيع” هو الخطيئة الكبرى.

لكن تشاك كلوسترمان، كان يبّشر بتغيّر الحال مثل مجلة “فاست”، ففي مجموعة مقالاته “التسعينيات”، يعرّف تشاك مصطلح “البيع” ليس على أنه الشخص الذي يبيع شيئاً ما من أجل أن يصبح ثرياً، ولكن الشخص الذي يتنازل عن قيمه للقيام بذلك!

يقول تشاك: “إنه تصرف خاسر إن كنت تقوم بنفس الأعمال التي كنت تقوم بها من قبل، باستثناء (التغليف) طبعاً، والتغليف كما تعلم محاولة مهمة لجعل منتجك مستساغًا لدى جمهور أقل تمييزاً وثقافةً وإدراكاً”.

التسعينيات، أيضاً شهدت أول موجة كبيرة لاستثمار المشاهير في الإعلانات التجارية، فإن كان عقد الخمسينيات والستينيات استثمر الممثلين في العطور والأزياء، فإن عقد التسعينيات شهد دخول الانترنت وثورة الاتصالات وتزعزع كل القيم الراسخة والأفكار الماكثة، فرأينا نجمات ونجوم السينما في إعلانات لـ”تايد” و”سيريلاك”.

حسنٌ، لقد أصبح (البيع) غول العالم الجديد وأتى على كل الصناعات، ومنها الثقافة بالطبع، إذ أن خط إنتاج الصناعة الثقافية اليوم يركن للنجوم وعدد المشاهدات لا القراءات، والمتابعين والجوائز السابقة، وإشارات “تيك توك” النقدية لا “نيويوركر” وعلى المبدع أن يكون “بيّاعاً” ونشطاً على وسائل التواصل الاجتماعي، ومثيراً للجدل. وهذا النموذج من صناعة الثقافة لا يتوافق أبداً مع المثالية الرومانسية التي كانت في القرن الماضي، حيث كنا نميل إلى الإيمان بسماوية المبدعين وتنزيههم عن فكرة الحرفة والصناعة، إذ كنا نراهم منعزلين موجودين على مستوى روحاني أعلى من بقيتنا. ولعل هذه النظرة كانت سبب تأليف ويليام ديريسيويتش، كتابه: “وفاة الفنان: كيف يكافح المبدعون من أجل البقاء في عصر المليارديرات وشركات التكنولوجيا الكبرى”.

لقد تمّ تسليع الثقافة وبالتالي تسليع المثقفين. دور النشر الخمسة الكبار في أمريكا، استشعرت التوجه التسويقي الجديد، فتعاقدت مع مؤثرين على تيك توك، تروّج لبيع كتبها “أخضرها مع يابسها”، تقول راشيل كاي ألبرز أنها كتبت رواية نالت استحسان كبرى دور النشر، ولكنها واجهت مشكلة في التسويق! تقول: “إن جواب دور النشر كان يشير بشكل أو بآخر لقلة المتابعين على صفحاتي الاجتماعية، يريد الناشرون ضماناً بأن الكاتب يأتي ومعه جمهور مدمج من المتابعين”.

على مدى العقد الماضي، أدت عمليات التسريح الجماعي للعمال في الصناعات التي يفترض أنها مستقرة، (ومن بينها الصحافة والدراما) إلى جانب الأجور الراكدة، وخيبة الأمل العامة وقلة الموثوقية في العمل مع الشركات، إلى جعل ريادة الأعمال جذابة بشكل متزايد للشباب، ممن أجبرتهم التحولات الاقتصادية الأكبر على التصرف كما لو كانوا كذلك.

وبطبيعة الحال، هذا التحوّل طال حتى منشورات النقد والمراجعات المخصصة مع استمرار الصحافة المدعومة بالإعلانات في انهيارها البطيء وتضاؤل وظائف النقاد الثقافيين. في يناير 2023، قامت شركة Condé Nast بدمج موقع مراجعة الموسيقا المتخصص  Pitchforkمع GQ  وتم تسريح الموظفين ذوي الرواتب العالية، وهم بالضرورة النقّاد الأهم. وفي هذا قال ريتشارد بود: ها نحن نفقد النقد الذكي والمحرر المحترف، إنه توجّه العالم الجديد، بعدما كانت المراجعة الإيجابية التي تنشر في نيويورك تايمز تصنع نجاحات بين عشية وضحاها، أصبحت اليوم لا تحركّ إبرة. لقد حلّ محل تلك المواقع الرصينة مراجعو الـ YouTube وأصحاب النفوذ التواصلي وهم في معظمهم “كتّاب بريد القرّاء القدامى”.

ألبرز الكاتبة الحالمة والتي تكتب بشكل رائع، تقول: “لم أعد أفكّر بأسلوبية الكتابة، بل بتكوين شبكة من الباعة الذين يلهجون باسمي.. أريد أن أصبح علامة تجارية”.

ولم لا! هذا حقٌ من حقوق ألبرز وقد رأت الكاتبة Alex Aster البالغة من العمر 27 عاماً تبيع حقوق كتابها الأول “رجل الأكواخ البحرية” الذي طرحته على (التيك توك) تبيع حقوق تحويله إلى فيلم بمبلغ خيالي على نفس المنصة في لحظة فيروسية فارقة!

نعم، لقد تغيّر كل شيء، فيمكن لأي شخص أن ينتشر بسرعة كبيرة متجاوزاً (حراس البوابة التقليديين) ويصبح علامةً تجارية.

أصحاب العلامات التجارية الثقافية اليوم موجودون في كل مهرجان، وفي كل مسابقة، وفي كل مراجعة نقدية، على جود ريدرز وفي التقييمات المدفوعة الثمن، الناشرون يشترون لهم المتابعين والإعلانات المحررة، ويثيرون حولهم الجدل حتى تظل أعمالهم متداولة، حتى على التيك توك بنوا منصات واستثمروا في مشاهير المنصة الذين لم يقرأوا كتاباً واحداً في حياتهم.

يقول مايكل ماتش: “لقد أدت خدمات توحيد الشركات والبثّ المباشر إلى فقد مصادر الدخل التقليدية للفنانين وتدمير الصناعات الثقافية. وفي حين تدّعي مواقع التكنولوجيا الكبرى مثل Spotify  أنها تعمل على (إضفاء الطابع الديمقراطي) على الثقافة، فهي من جهة أخرى تطالب الفنانين بالمشاركة ومضاعفة العمل لتحقيق جزء بسيط مما كانوا سيحققونه في ظل النموذج القديم”.

لقد أصبح هاجس الترويج المستمر للذات ينحو نحو اتجاهاتٍ رخيصة، وهو ما حتّمته استراتيجيات النشر المتغيرة باستمرار، وفي ظل طغيان التوزيع الخوارزمي لوسائل الإعلام، أصبح على الفنانين والمؤلفين أن يصبحوا رواد أعمال أيضاً.

ها نحن نرى نجوم الدراما والسينما والغناء والكتابة على التيك توك يضعون الوحل على رؤوسهم من أجل حوت أو وردة أو أسد! وها نحن نشهد النجم منهم يطلّق ويعود، ثم يطلّق ويعود، ثم يطلّق ويعود، إلى ما لا نهاية من أجل التريند واللغط الالكتروني وبناء العلامة التجارية.

في معرض الكتاب، كان الزحام على أشدّه، وأنا أريد أن أزاحم الناس بجسدي المنهك لأصل إلى منصة توقيع الكتب لواحد من أحب كتّابي إليّ، أديب ومفكّر من كتّاب النخبة الحقيقيين، تنويري ونجم لدى جيلي لا يختلف على منتجه أحد. ووجدت طابوراً طويلاً طويلاً من الناس يريدون التوقيع، قلت في نفسي: “الحمد لله: يبدو أن هذا الجيل أكثر حصافةً من جيلنا.. لأكتشف أن الناس هذه تذهب لمنصة توقيع محاذية حيث يوقّع أحد “المؤثّرين” كتابه الأول، بينما أستاذنا لا يوجد في صفّته سوى بضعه أسماء جميعها من الجيل الذي سينقرض قريباً!

ودون أي تحامل ولا غايات سوى الاطلاع على اتجاه الكتابة الجديد، اشتريت كتاب المؤثر، وسألني ما اسمك كي يوقّع لي: قلت له: اسمي مالك الحزين، حتى أنه لم يبتسم ولم ينتبه للمفارقة وقع لي كتابه بخطٍ أميٍّ رديء وطافح باللاشيء إلا أنه أجود بكثيرٍ من كتابته ومن كتابه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.