عن المقاهي التي صنعت المدن!

6 يناير 2024

أول شيء أقوم به بعد أن أضع رحالي في أي فندقٍ مستطاع، هو أن أهرع إلى المقهى الأهم في المدينة، أشرب معها خريطة الشارع وحركته ووصف الناس ومشاهد المدينة، أمسرحها في ذهني قبل أن أعتلى “ركحها”، وكان رقمي القياسي لأطول وقت قضيته في مقهى هو 9 ساعات متواصلة.

وحينما نذكر المقاهي، لا شك أن باريس هي أول مدينة تخطر في البال، ذلك أنني أستطيع القول أن المقاهي هي التي صنعت باريس وليس العكس! فمنها قامت الثورات والتصورات والأحزاب والصحف والأفلام واللوحات وفيها نوقشت أهم الأفكار عن الحرية والفلسفة والأدب.

وقد أعاد لي سؤال أحد الأصدقاء الصحفيين لي في تحقيق حول المقاهي، أن أذكر له المقهى المفضل لدي في العالم، وحرت طويلاً قبل أن أجيب، فلدي من المقاهي المفضلة الكثير حول العالم وقد اخترت في نهاية الأمر. وسألت نفسي سؤالاً بديهياً كنت قد سألته مسبقاً، هل نحمل جميعاً ذات التصوّر والمفهوم والتعريف للمقهى؟ حسنٌ لنتفق على أن المقهى هو مكان ما تشرب فيه مشروباً شعبياً أو فنجان قهوة مدفوع الأجر، محلٌ تجاريٌ مفتوح يستقبل الجميع على حدٍ سواء، لا يقدم وجبات الطعام في العموم، هذا في الشائع، وبهذا المفهوم لا يوجد شيءٌ مهم، إلا أن هذا يختلف نوعياً بين بلد وآخر. إنما أيٌ يكن، يشكّل المقهى “بذرة” مجتمع أولية سرعان ما تفرز بعضها البعض وتتطور من جينات اهتماماتها وصلب طموحاتها حتى تمايز اليوم بين مقهى للشيوعيين وآخر للقوميين ومثله للتشكيليين وآخر لمحبي تربية القطط والسناجب.

وككل تجمّعٍ مدني، يكتسب المقهى قوانينه ويبنيها من لدن وجوهر تجربته، كما أنه نوعٌ من المكوث من شأنه التطور؛ ولهذا من النادر جداً أن تجد مقهى عند محطة قطار أو في مطار له أهميةٌ تذكر.

المقهى الأشهر والأهم؟ هذا تصنيف مخاتل وفضفاض، كيف حقاً نستطيع أن نميز الأهم ولماذا يصبح هذا المقهى شهيراً والذي بقربه خاملاً؟ هذا هو سؤالي الدائم. ما هي مواصفات “الأهمية”، هل هي القدم والعراقة أم الهندسة الفريدة والطراز المعماري، هل هو “منيو” المقهى وجودة منتجه أم رواده ونوعيتهم؟ هل التصنفيات العالمية ووسائل الإعلام تميل برأيك وتبدله؟ حسنٌ قد يكون موقعه الاستثنائي أو حدثٌ تاريخي جعله محظوظاً ومقصداً للرواد الفضوليين أمثالي! طيّب؛ ما رأيك إن اجتمع كل هذا؟

لا شك أن كل بند مما ذكرنا هو بندٌ هام، ولكن أعود لأرتطم بجدلية أن المفضل لدي قد لا يكون كذلك لغيري، وسأضيف وإن لم يسألني أحد: الأهمية الكبرى بالنسبة لي تأتي من مقاومة المقهى لعوامل الزوال والفناء، فهنالك الكثير من المقاهي التي شكلت حالةً من الغليان والثورة ولكنها انتهت بانتهاء الحالة الضامّة. وهذا يعني أن المقهى كان حالةً وليس مقهى في أصل جيناته.

في باريس هنالك قائمة طويلة لأهم مقاهي باريس كلٌ منها يزعم أنه الأهم! وفي باريس معظم المقاهي تقدم الطعام، ذلك أن الفرنسيين يقضون أكثر من نصف حياتهم على تلك الطاولات بشراشفها الحمراء المنتشرة على الأرصفة. وقد كتبت عنها بشكل مفصل في كتابي “فهرست ابن النديم” وذكرت أهم المقاهي التي أفضلها، ولكني اليوم استذكرت أحد أكثر المقاهي التي أحبها لا في باريس وحسب؛ بل في العالم، وهو مقهى “لو دوم كافيه Le Dôme Café” أول مقهى يفتح في المونت برانس كما يلفظها العرب أو (Montparnasse) تلك المنطقة الخلابة. بدأ المقهى نشاطه كنقطة تجمعٍ لفناني الشارع في المنطقة من رسامين وموسيقيين، ثم ازدادت شهرته فأصبح ملتقى دائم لمفكري غرب باريس، واكتسب أهميته أنه كان ملفىً لغير الفرنسيين من الفنانين، إذ كان يسمى بمقهى الأنجلو سكسونيين، إلى جانب أنه يقدم للفنانين الفقراء وجبات طعامه الفاخرة مقابل ما يعادل يورو واحد فقط! زار الدوم كوكبة هائلة من مبدعي البشرية عبر التاريخ مثل: بيكاسو، مودلياني، هنري ميللر، جبران خليل جبران، يوسف حويك، عزرا باوند، لينين، كاندينسكي، غوغان، همنغواي. أناييس نين وغيرهم. المقهى ورد في العديد من الأعمال الأدبية، مثل “عصر العقل” لسارتر و”جاءت إلى الخلود” لسيمون دي بوفوار، و”دلتا فينوس” لأناييس نين، كما كتب إليوت بول رواية عنوانها: “القتل في مقهى الدوم” إلى جانب أغنية أديث بياف الشهيرة “باريس” التي كتبتها في هذا المقهى وعنه.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.