عائشة بلحاج: الكتابة ركضٌ مستمر وليست مشروعاً سكنياً

28 مايو 2023

حاورها؛ هاني نديم

من مبهجات القراءة أنها تدور بك العالم وأنت وراء مكتبك، قرأت كتاب عائشة بلحاج “رحلة الى باريس على جناح درّاجة ” وهو كتاب أعاد علاقتي مع باريس التي أزورها بشكل دوري. ولم يكن من المفاجئ فوز هذا الكتاب بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في دورتها الواحدة والعشرين 2023.

التقيت عائشة بلحاج، الإعلامية والشاعرة المغربية في هذه الدردشة:

  • فزت بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، بم تحدثينا عن كتابك وهذا الفوز؟

– تُنعش الجوائز المشهد الثقافي، أكثر مما تقدّم للكاتب صكّ اعتراف بقيمته. ولا ينطبق هذا على كثير من الجوائز العربية، التي لا تهدف إلى تغيير وتجديد المشهد، بتتويج تجارب مختلفة كفيلة بخلخلة الأدب التقليدي، أكثر مما هي تكريم أو اختيار غير مبرّر، أحيانا، للّجان التي تنتصر لأعمال أقل من أخرى. أعتبر جائزة ابن بطوطة من الجوائز التي لا تقوم على مجاملة أو تكريم، بقدر ما تنظر إلى قيمة الكتاب، لذا أسعدني فوزي، رغم أنني كتبتُ الكتاب للقارئ لا للجائزة، كتبته كما أحبّ، قدر الإمكان.

في الرحلة، حاولتُ أن أخرج من المسار التقليدي لأدب الرحلات، إلى شكل مختلف، أؤمن أنه الأنسب بالنظر إلى ما رأيته وشعرتُ به في باريس. فاخترتُ نافذةً واحدة تطل على مشهد بانورامي، لأنظر منها إلى باريس. مع هاجس مقلق بأنني قد أكرّر ما كُتب عن مدينة ربما لم يُكتب عن مثلها هذا الكم الكبير من الكتب. آملة أن أقدم جديداً للقارئ العربي، على الأقل. فجذبتني تيمة المرأة داخل المكان والزمان، واخترت أن أرى باريس بعدسة امرأة واعية بالفروق الجنسية، في هذا المجتمع المتحرر نسبياً، من سيطرة الذكورة الاجتماعية، بالمقارنة مع المجتمع الذي جئتُ منه. وهو مجتمع مازال يقيّد المرأة بشكل بالكاد تتنفس معه.

قد يجد البعض الكتاب نسوياً، وقد يجده البعض ثقافيا جداً، والبعض الآخر جريئاً جداً… وكل ما أرجوه أن يحبّ الآخرون الذين لا يضعون الكتب في خانات وقوالب، هذه التوليفة بين الرحلة الشخصية، والرحلة الثقافية.

  • كيف تقرأين الأدب المغربي اليوم وما مدى تقديمه لنفسه على خارطة الوطن العربي؟ هل من خلل أم أنها علاقة سليمة؟

– هذا موضوع شائك أحاول عدم التفكير فيه أحياناً، لكنه يكاد يطرح نفسه كحقيقة صادمة أحياناً أخرى. وهي ليست مشكلة الأدب المغربي فقط، بل أدب دول لم تكن مركزا للثقافة في القرن الماضي. فأهملها القارئ العربي، بما فيه المثقّف الذي صار يبحث عن كتب مواطنيه، أو مواطني دولٍ كان لها صيت كبير في العقود الأخيرة من القرن العشرين. يُشعرني هذا بالأسى، خاصة على الشّعر الذي بالكاد يجد له قارئاً على أيّ بقعة جغرافية، وهو بالأساس منتوج إنساني، أكثر من أي جنس أدبي آخر، لا ينتمي إلّا إلى الإنسان.

مع هذا الانتصار للثقافة المشرقية بشكلٍ خاص، يجد الشّعراء المغاربيون، ومن دول أخرى، أنفسهم خارج خارطة الشّعر العربي. على سبيل المثال، يؤسفني أن تغيب تجارب رائدة في المغرب، عن التداول الشّعري العربي، مثل مبارك وساط وعبد الله زريقة ومحمد بنطلحة، وشعراء برزت نصوصهم في السّنوات الأخيرة بقوة، مقدّمة وجهاً جديداً للشعر، له أهميته.

لعل الكاتب والقارئ العربيين مشغولون بأنفسهم أكثر، ولعلّهم مُحقون. لكنني أؤمن أنّ مكان الكاتب هو العراء المجازي، الذي يكون فيه منفتحاً على الآخرين. فهم مصدر الكتابة، لأنّهم يستفزون الكاتب فيه. وأحب أن أقرأ ما أحبّه، بغضّ النظر عن انتمائه الجغرافي، فهُوية الشعر مرة أخرى، لا تنتمي إلّا إلى الإنسان.

مع هذا الانتصار للثقافة المشرقية بشكلٍ خاص، يجد الشّعراء المغاربيون، ومن دول أخرى، أنفسهم خارج خارطة الشّعر العربي

  • ما مشروعك الثقافي، ماذا تريد عائشة وإلى أين تمضي؟

– لا تزهر الكتابة إلّا في البرية، حيث لا طرق، ولا قوانين، ولا أحد غير الأشجار والطيور، وبعض الأرانب السّريعة، شبه مستحيلة الالتقاط. لنعتبر أن الكلمات هي الأشجار، والنّصوص الجيدة هي الأرانب البرية، والطيور قراء محتملين. فكيف نتحدث عن مجمعات سكنية وطرق سيارة، هي التعبير الصريح للمشروع الثقافي، الذي أشعر أنه يشبه المشروع السكني؟

قد يوجد مثل هذا المشروع في الفكر والفلسفة، حيث يبني الكاتب رؤيته لبنةً لبنة، ثم يزوده بالماء والكهرباء ليراه الآخرون مكتملاً وواضح المعالم. لكن في الأدب ما من طريق محدّدٍ للمشي فيه، بل فقط مسارٌ متعرج، يتّبع الكاتب فيه الإشارات، واحدة خلف أخرى. وأقرب شيء يمتلكه للمشروع الثقافي، أن يكون له حصيلة منسجمة مع تجربته في الحياة، ووعي شامل يواكب إحساسه بالأشياء حوله.

بالنّسبة لي، تهمّني الكتابة لأنّها شلّال أؤمن أنه وُجد مع ولادتي إلى الحياة، ولأنّها تحَرُّر، ولأنّها عالم مواز. أعيشها كلّ يوم وأتنفّسها في كل ما أفعل. وأزعم أنني أحضر كذاتٍ وكوعي داخل ما أكتب. لذا أحارب فكرة “المشروع السكني” في الأدب، لأنّها تحبس الكاتب وتُنمّطه، بينما الإبداع محاولة كسر ما سبق وكُتب، وركض مستمر إلى ما لم تمسسهُ يد بشر من قبل… هذا ما أريده، ولعلّني أصل يوماً في كل ما أكتب، إلى أرض مجهولة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.