د. أفضل فاضل: الشعر العظيم يكتبه الملعونون!

16 يناير 2024

حاوره: هاني نديم

بين الطب والأدب علاقة ممتدة وطويلة، بدءاً من لوقا تلميذ المسيح ومروراً بموسى بن ميمون وابن سينا وكوبرنيكوس وليس انتهاءً بابراهيم ناجي والعجيلي وأمير تاج السر ووليد الصراف وغيرهم. وهذا يفسر نوعاً ما تفوق نصّ الشاعر والطبيب العراقي أفضل فاضل الذي تعرف قصيدته الفارقة دون تشريح وطبٍ سريري!

التقيته في هذه الدردشة، سألته:

  • السؤال الكلاسيكي، إن العلاقة بين الطب والأدب وثيقة حيث هنالك أسماء عظيمة من الأطباء الأدباء، ولكن ألاحظ – ولعلي مخطئ – أن معظم الشعراء الأطباء يكتبون الموزون ما خلا حالات نادرة. كيف تصف العلاقة بين الطب والأدب وهل بينهما تقنية مشتركة؟

– أودُّ أن أوكّد لك صديقي الرائع أنني دائماً ما كنتُ أتّخذ وظيفة المُشارِك لا المُنتمـي حين يتعلّق الأمرُ بالأدب، و أتحسّسُ جداً من العناوين الوظيفية فيه إلى درجة الخيفة والرعب! أنا كالعابر خطفاً تحت عارضٍ ممطر يتحدّثُ لصحراء منقطعة عن شكل الغيوم التي ما مرّت يوماً بسمائها، و عن ريّ الماء المنهمر الذي يمرُّ حُلُماً بغفوة رملها فتتوق إليه.

العارضُ هو الأدبُ، و أنا من يدّعـي وصلاً و ما ابتلَّ بهِ إلّا وشلا.. عندما تصبح طبيبًا، تصبح جزءاً مهماً في ألم و معاناة الآخرين، وهذه مسؤولية عظيمة! يختار الناس أن يذهبوا للمطاعم إذا جاعوا مثلاً، لكنهم لم يختاروا أن يمرضوا حين يذهبون لاستشارة طبيب! هناك فرق، الطبيب يتعامل مع أقرب ما لله على هذه الأرض، الروح؛ و في تناغهما مع الجسد وتفاعلاته الأيضية يكمُنُ سرّ عظيم، لو تفكّرت بهِ سينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ..

الشعراء الأطباء منهجيّون ، لأن الطب عِلمٌ منهجي يعتمد على اتّباع طريقة the Clinical Guidlines الدليل الموحّد المتّفق عليه لجميع الأطباء، فُسحةُ الاجتهاد تكاد تكون معدومة، لأنّ أي تغيير، ولو بسيط، فيه، لا يمكن إقراره إلّا بيقين راسخ يمنح الجديد شرعية علميّة لا تُناقَش، ربمّا، أقولُ ربّما، هذا ما يُفسّر ما ذهبتَ إليه أن جُلّ الأطباء الشعراء يكتبون الشعر وفق قواعد الشعر العربي التقليدي. و ذلك لأنّ منهج دراستهم الطويل طبع أرواحهم بما لا يقبل التطبُّع!

لا خطة عندي للكتابة.. يضربنـي برقٌ ما يطلُّ في صحوي، فاشتعلْ

  • كيف تبدأ نصك وكيف تخرج منه؟ هل من خريطة طريق نحو الكتابة لدى أفضل؟

– أنا أؤمنُ أنَّ أجدر الطُرقات بالسفر هي تلك التي لا تودي  و أعظم المُدن هي تلك الجديرة بالضياع فيها، و مرة كتبتُ: كم أنت أنت حين لاتعرفُ ماذا متى أو أين..

لا خطة عندي للكتابة، يضربنـي برقٌ ما، يطلُّ في صحوي، فاشتعلْ، و لا أعود أعرفُ من أنا! يحصل هذا حين اندغمُ بين ثنيّات اليوم خلال العمل، خصوصاً الزمن بين انشغالٍ مُتعِبٍ مع المرضـى، يعقبهُ برهة راحة تنحدر فيها الروح على سفح لجبل أرهقني طوال اليوم صَعودا ..

مثلاً ، النص الأخير عن الشهيد الفلسطيني، أُقسمُ كتبتهُ جملةً واحدة جالساً على مائدة عشاء، فارقنـي عنها و تركني وحيداً صديقٌ ذهبَ ليغسل يديه. كانت صورةُ الشهيد في بالي لا تُبارِح، أحسستُ بالذنب إذ شبعتُ من طعامـي، و استحيت!

تنتهـي الكتابة مع انطفاء الجمرة ، تخبو ، و أعرف أنّها خبتْ حين أرفعُ رأسي، أنظرُ حولـي، فأعرفُ من أنا، ثانية، أعرفُ أنّنـي انتهيتُ ..

  • يشغلني دوماً تصورات الأدباء الذين يعيشون بالخارج عن المشهد الأدبي العربي، كيف تراه من الخارج، وخاصة العراقي؟

– المشهد الأدبي يعكس صورة المجتمع تماماً، أعتقد أنها مقولة قديمة، لكنها صادقة جداً.. ربما لا إضافة لها، غير أن هناك شعراء و أدباء كبار و عظماء الآن، هم عمود الشعر والأدب في العراق، أسماء تلمع في ليل دهيم، وبهم يبزغُ غبش ضياء، بهِ نميزُ بين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. الآفة المزمنة في الأدب العربي هي رضوخه للمؤسّساتية أحياناً، واحتياجه الدائم إلى حتمية الانفصال عن واقع لا شعري مُقنَّن و مقنِّن! الشعراء الذي يكتبون شعراً عظيماً هم: الملعونون المنبوذون، المحرومون من الميراث!

حين ينكسر الإنسان سأظل متوفّراً بغزارة

  • ما هي همومك خارج الأدب، كيف تعيش وهل تزور المنطقة بين الحين والآخر؟

– همومي خارج الأدب! أعمل طبيباً للأطفال و حديثـي الولادة، عملاً كاملاً يأخذّ كلّ وقتـي، وأُشرف على تدريب الأطباء المقيمين. هذا يجعلُ اللحظات التي أكون فيها خارج العمل ثمينةً جداً. أقرأُ للشعراء الحقيقين و أبتهجُ باكتشافاتهم للجمال، فهذا أحوج ما نكون إليه في عالم يزداد قبحاً . أتنفس الصعداء حين أعثر على نص بديع أو قصيدة رائعة نُفحَتا من شاعر أو أديب يكتبان أدباً حقيقيًا.. عدا ذلك، أحملُ صراعاً وجودياً.. يقلقنـي ويعبثُ بي هذا العويل البشريُّ الطويل، أرى خلف غلالة المشهد المعتاد وجوداً مفترساً و وحشيّاً، وجودٌ قائمٌ على (الإقتِتات) و لا أعرف إن كان المصطلح صحيحاً ! كلٌّ يقتات على كلٍّ، كلّ حشرة و نبات و حيوان؛ و الإنسانُ النفحةُ،تلوي به الريحُ و السافيات.. طريد الأسئلة التي لا تبحثُ عن جواب.. أرى في غامِضِ الأَشياءِ مَعنـى سوى الوَهْم ِالذي يَعْتامُ عَينـي، و أخيراً : أنا بسيط و لي روحٌ كأنّها ماء فَـقَـد الذاكرة ، و حيثُ ينكسرُ الإنسانُ ، سأظلّ دائماً أَتَوَفَّـرُ بغزارة..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.