إنكار الذات.. المبالغة في إنكار الذات

رانيا درويش يوسف – كاتبة من سوريا

ويدورُ يدورْ، فغرتُ فاهي وفتحتُ عينيَّ عن آخرِهِما، لمّا عرفتُ أنّهُ باتَ يعرفُ أينَ دفنتُ أقبحَ أسراري…. بهدوءٍ وبطريقةٍ استفزازيّةٍ أرعبني، حكّ بأظافرهِ التي تعرفونَها جميعُكم، حكّ الطّبقاتِ التي أغلّف بها أنايْ، ماذا يريدُ هذا الملعونُ منّي؟ كلّما أَوْقَدَ حقيقتي ووجدتُنِي أراها من الثُّقوبِ التي أَحْدَثَها هذا الشَّيطانُ، فوجئتُ بأنايَ التي أطمُرُها وخِفتُ مِنِّي.

يعرفُ… يعرفُ هذا العاصي أَنِّي أَعصي الله وأخشاهُ، وأنَّنِي في كلِّ صباحٍ أُعيدُ تَرتيبَ وجهي، وأطبقُ على رقابِ خطايايَ بشكلٍ موجعٍ وأهدِّدُها إن حاولَتْ فضحِي، وأركلُ بقدميَّ صغارَ الخبائثِ التي تُرضيني ليلاً عندما يطهو الكونُ شرورَهُ، فمحالٌ…. محالٌ أن يولدَ شرٌّ في الضّوءِ.

أتظاهرُ بالسعادةِ والرِّضا، كلَّما أنَّت عِظاميَ بثقلِ الفضيلةِ، أنا أشبِهُكُم… أُشبِهُكُم جميعاً، وسأقولُ لكم سرَّاً من أسراري، علّمني شيطانيَ الملعونُ كيفَ أتبيّنُ بوضوحٍ وقوّةٍ، الدافعَ الحقيقيَّ وراءَ كلِّ عملِ خيرٍ تقومونَ بهِ.

علّمني كيفَ أرى من خلالِ الثّقوبِ التي أحدثتها شياطينُكم كنْهَ غيري وحقيقتهِ، فأضحكتني زلّاتُ ألسنَتِهِم البلهاءَ، ولمستُ البقعَ المظلمةَ في قلوبِهم، فأبْتَسِمُ لشيطانيَ الذي علّمني كيفَ أعلم.

تكمنُ القصّة في المبالغةِ…المبالغةُ في إنكارِ الذاتِ، وقتلِ الخطايا. خلفَ هذهِ المبالغةِ محاولةٌ بائسةٌ ومثيرةٌ للشفقةِ لإرضاءِ ضميرٍ معذبٍ يحاولُ غسلَ خطاياه، أو محاولةُ جريئةُ لضميرٍ وقحٍ يرمي بوجهِ محتاجٍ معروفاً، وربّما كان هذا المعروفُ دفعاً مسبقاً أو كفارةً لموبقةٍ لمّا تنضج ويطِب ارتكابها بعد.

وهؤلاءِ أحقرُ النّاسِ وأخطرَهُم.

تكمنُ القصّة في المبالغةِ…المبالغةُ في إنكارِ الذاتِ، وقتلِ الخطايا

هزَّ شيطاني رأسَهُ مُوافِقاً مُقتَنِعاً لمّا أشرتُ لهُ بيَدِي إلى أُناسٍ غرباءَ عن أنفُسِهِم يعيشونَ الفِصام، ويسارعونَ إلى تقديمِ المعروفِ والإحسانِ معتقدينَ أنّهم يحاولونَ إرضاءَ الله، لكنهم في واقعِ الحالِ إنّما يحاولونَ إرضاءَ أنفُسِهِم وذواتِهِم المشوّهةِ الحزينةِ، فيصيرُ المُحسِنُ بحاجةٍ إلى من يحسنُ إليهِم لأنّهم يُشكِّلونَ جوهرَ تقديرِهِ لِذاتِهِ، سينقلبُ هؤلاءِ المحسنون ويتحولّونَ إلى إلهٍ صغيرٍ ينزلُ العقوبةَ بكلِّ من يحاولُ الإفلاتَ والتحرُّرَ من عبءِ إحسانِهم. قالَ أفلاطون: في داخل كلٍّ مِنَّا، حتّى أولئك الذينَ يَبْدُونَ أكثرَ هُدوءاً، رغبةُ رهيبةُ ومتوحشةُ وغيرُ قانونيةٍ.

لكنَّ ابنَ رشدٍ حلَّ معضلةَ العقلِ الّذي ظلَّ مُتأرجِحاً بينَ الخيرِ المُطلَقِ والشّرِّ المُطلَقِ وقالَ: الشَّرُّ الأقلّيُّ في خدمةِ الخيرِ الأكثريِّ.

أَنا أراكُم… وأعرِفُ أنَّ الفكرةَ راقتكُم وأبهجتكُم لأنَّها ستجعلُكُم تحبونَ ذواتَكُم النّاقصةَ والتّائهةَ. الخائفةَ المرتجفةَ. لكنّها الإنسانيّةُ…

أُحِبُّكُم …. أُحِبُّكُم جميعاً وانحني لكلِّ مَن خَشِيَتْهُ شياطينُهُ.. ولم يخْشَها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.