فراس سليمان: أنا مندوب مبيعات للخيال!

 

17 فبراير 2024

حاوره: هاني نديم

في المشهد السوري الشعري، يمّر اسم فراس سليمان كدلالة للشعر الحقيقي في تجلياته الحداثية، إنه إحالة حقيقية للمشهد السوري قبل أن تقوم القيامة ويختلط كل شيء في كل شيء، قبل أن يتأصّل شكل آخر من الخطاب والمعجم والأسماء برمتها. 

تعرفت إلى شعر فراس سليمان أول التسعينيات من القرن الماضي، وأولعت بطريقته الأخّاذة في بنيان نصه شاهقاً دون الحاجة إلى الكثير من المواد الأولية.

التقيته في هذه الدردشة السريعة أستعيد معه بعضاً من زمننا القديم، سألته:

  • لا أعرف أي من مجموعاتك هي الأقرب لقلبي، لكن قد، أقول قد، تكون نهايات معطلة، ذلك أنني قرأتها والدراما السورية في أوجها، دعني أسألك عن أحب أعمالك إليك، وعن هذا الصوت البعيد دوماً في نصوصك وكأنه تأنيب ضمير.. عن تقنية كتابتك وكيف تكتب ولمن ومتى ولماذا؟ 

– بداية دعني أقول ببساطة : إني عادة ما أتجنب اللقاءات والمقابلات  على خلفية زعمي أن نصي يقدّمني بطريقة أفضل. وأن الإجابات غالباً ناقصة بوصفها مقاربات يمكن الحذف منا والإضافة إليها. وهنا سأحاول التكثيف والاختصار قدر الإمكان. على الرغم من أن بعض الأسئلة يُغري ويفتح الأبواب  على الإسهاب.

أبدأ: علاقتي بكتبي المنشورة، تشبه علاقتي مع كتب غيري /من ناحية أني أحب نصوصاً هنا وهناك وأحياناً جملاً متفرقة/ لكن لمزيد من التوضيح أشعر أن نص (رجل القبو) المكتوب منذ ما يقارب 25 عاما شكّل علامةً في رحلتي.

أذهب نحو الجمال المهدور في اللغة وعلى أطراف الحياة

إنه دعوة مفتوحة للخاصة الذين يصدقون أن ما يبقى جمالٌ مهدور في اللغة وعلى أطراف الحياة  أو في احتمالات الحياة المفتوحة. تركيب موازٍ مشغول عليه في مساحة  تقع بين الوعي ونقيضه. مطّعم بخيال وأفكار وفي لبوس من الاستعارات

نص لا يرضى بأن يسلم جسده إلا لقطّاف لذة يصارعون مسألة الوجود بوصفها ولّادة أسئلة وأجوبة لا تنتهي. كتابة تمضي عكس التيار، حيث كل شيء يجنح للسهولة لتلبية أوامر طغيان السائد. كتابة منهمكة في الزمن. صراخها همس ارتيابي نقدي على مسمع المكان وحراسه.  تستعير من الآني ظلاله لتقول اغترابات الإنسان  هنا وهناك  موظفة رؤى ذهنية وبعض طاقات التأمل. إنه عمل تجريبي مقامِر. نص واحد  متعِب وطويل. نص لهواة التشابك مع الصعب.

تحدثت/كتبت/ عنه قليلاً في التوطئة لكتاب (خادم أشباح) لمن يهتم.

الكتاب الآخر (كأن اسمي إشارة خاظئة) وهو مجموعة شذرات /لا أعرف لماذا لا تروقني كلمة شذرات/  أفكار وتأملات تأطّرتْ مكثفةً في جمل وعبارات كُتبت بلعة مجازية. كما يحتوي نصوصاً  أخرى مفتوحة. ومن المؤكد لو عملت على تحريره /تنظيفه/ سأكون أكثر رضا. أما من المجموعات الشعرية فهناك القصائد، التي حين أعيد قراءتها لا أشعر حيالها بالندم. لكن على وجه الخصوص أرتاح  لمجموعتي (نسيان) و(أخيرا وصلوا لكن في توابيت) أزعم أني في كثير من نصوص الكتابين قدّمت صوتي الذي أفاد من منجز قصيدة النثر فذهب بها ومعها إلى ألفة حائرة ومحيّرة.

كما أنها فرصة لأذكّر بأن لي ديواناً استعرت فيه صوت الأنثى/المرأة بعدما كنت قد نشرت باسم مستعار مطلع التسعينيات في دوريات عدة، أهمها مجلة “الناقد” بعدها (غرت) من ذاك الاسم و فضحت اللعبة من دون أن أستغلها. وتابعت تضمين ما كتبته بتلك الطريقة في عدة مجموعات.

كيف سأترجم (الصوت البعيد) ربما إنه بُعد /العمق/ محاكاة ما لا يقبل المحاكاة . بظني أن القصيدة التي  لا تستثمر فيما هو وراء الفكرة والعاطفة ستراوح مكانها مع جمهور كسلان.

تأنيب الضمير  ، لو فهمت قصدك هو معادل ربما لمفهوم (الاغتراب) بتعدد وتنوّع مستوياته.

أما عن التقنية فكل نص هو كائن له سيرته يمتلك أدواته ويذهب إلى مقاصده  و يجاهد ليقع في شكله.هنا لو يحق لي أن أحكي عن تجرتبتي ،أختصر وأقول: إذا كان هناك أي متتبع سيكتشف مدى الاختلاف والتنوع بين كل كتاب وآخر. بكلمة أخرى لو تخيلت مجموع ما كتبته حبلاً وأردت تمرير يدك عليه من البداية إلى النهاية ستمس يدك الكثير من العقد /الكثير من القطع والوصل/

من الليل والضجر ولدت قصائد كثيرة

الكليشه تقول: ابحث عن صوتك، جد أسلوبك. بالنسبة لي الأمر مختلف./أسلوبي ألا أركن إلى أسلوب وهذا مرهق ويتطلب الكثير من اللعب والشغل. كيف أقبض على الأرضي بإحكام وكيف أدع السماوي /فالتا غير مكموش/ كل ذلك وغيره يحدث ويُختبر في بيت اللغة الواسع.

أذكر مرّة قال لي أخي: أنت أسوأ من يسوّق لنصه. قلت: و هم جيدون جداً في تسويق أسمائهم.

لمن أكتب؟ للأصدقاء هنا وللأصدقاء المحتملين في مستقبل قريب أو بعيد، لقارئ يستطيع أن يلامس ويتفاعل مع النص شكلاً ومبنى.

متى أكتب؟ ليس هناك وقت محدد، إنه مزاج الكتابة/لو جاز التعبير/ يخطفني عنوة ويحبسني في ورشته. لكن في السنين الأخيرة لم أعد أستجيب كما من قبل، صار مزاجي الشخصي المتقلب يتحكّم بقوانين اللعبة.

من الليل والضجر ولدت قصائد كثيرة.

لماذا أكتب؟ كما قلت في (نهايات معطلة) أكتب لأسترجع حياة لا أتذكرها. أو ربما لأتذكر مستقبلي. أكتب لأني جبان وشجاع. لأن رهاني الوحيد الباقي هو تظهير الجمال، تصديق الفعل المبدع لأنه استثمار فيما تبقى من أرث (إلهي) داخلنا. تفعيل ما يميزنا عن الكائنات الأخرى (الوعي) و أيضاً لأنني رضيت أن أعمل /مندوب مبيعات /للخيال. أكتب لأني متورط.

  • تقريباً، توثق علاقاتك في كل مجموعة مع مكان ما، أمريكا، سوريا، القبو، الخيمة.. الخ.. كيف تصف علاقتك مع سوريا اليوم، ومع أمريكا من جهة أخرى؟ • صف لي المشهد الشعري السوري من بعيد.. كيف تراه من عزلتك؟ ماذا حققنا وماذا ينقصنا؟

– علاقتي بالمكان الأمريكي قائمة بشكل أو بآخر على الالتباس والنقصان. ولا نية لي هنا في دراسة وتفكيك العلاقة. فالتفاعل يحدث بآلياته الخاصة. أما مع المكان السوري فهي حاضرة دائماً مادامت الذاكرة تعمل.مادامت اللغة تسمح لي باستخدام تعبير /مستقبل مقلوب/ جيد أنك ذكرت كلمة (القبو) إنه الداخل والمعتم بالمعني الحسي الحقيقي وبالمعني التجريدي أيضاً.حيث أحتمي من العالم وأتصارع مع نفسي.

لا أعرف إن كنت أجانب الصواب لو قلت: إن النصوص الآتية من الوضوح/الضوء/ الذاهبة إلى الوضوح /الضوء/ أعمارها قصيرة. النصوص التي تخلو من البعد الزماني بالمعنى الفلسفي المفتوح تبقى عزلاء. وأحدس أنا ستخسر في معركة البقاء. هذا ما توصلت إليه عبر الانتباه إلى /التاريخ/ أما الآن من يعرف! المستقبل حاضر وغائم في هذه اللحظة كما لم يكن سابقاً. ولست متأكدا من المآلات ومساراتها.النقطة هذه محل جدل مفتوح.

  • صف لي المشهد الشعري السوري من بعيد.. كيف تراه من عزلتك؟ ماذا حققنا وماذا ينقصنا؟

– لا أستطيع الادعاء أني على دراية تامة فيما يحدث في المختبر الشعري السوري. لكن أحدس أن هناك مشتركات وتقاطعات كثيرة مع المشهد الكبير في العالم العربي. لا شك أن ثمة قصائد وتجارب هنا وهناك تستحق القراءة والاهتمام. لكن من خلال متابعاتي /للي ع قدّها/ أظن أن التكرار هو السمة الأبرز، فمعظم ما يكتب /طبعا يحدث هذا في كل الأزمان/ هو إعادة تدوير تفتقر إلى العمق والذكاء وأحيانا الموهبة. فمن غير اللائق أن يعمل الشاعر موظفاً لدى الذائقة المتواضعة، ألا تكون قصيدته منتج تجربة خاصة، صادقة، حقيقية.

  • عنك خارج الكتابة، عن حياتك اليومية، هواياتك، مباهجك، أحزانك، أصدقائك.. حدثني عنك ببساطة.

– فيما يخصني، فلدي ما يشبه القناعة أن على الكاتب أن يُبقي مسافة غامضة بينه وبين القارئ. تاركاً للأخير أن يتخيل أكثر مما يعرف. أقصد الكاتب له أن يكشف أوراقه أمام أصدقائه المقربين/ ويترك العلاقة مع القراء البعيدين لتُبنى مع النص وليس الشخص.

ثمة الكثير الذي يمكن التحدث عنه. في النهاية أود أن ألفت الانتباه إلى كتاب صدر بالعربية والانكليزية (صناديق بريد منسية) عن محترف أوكسجين، كتبه فتيان وفتيات مخيم الزعتري وعملت على تحريره. هذا الكتاب يستحق أن يلقى عليه الضوء لأنه تجربة جديدة وهامة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.