الشرّ المجاني.. الشرّ المطلق

9 ديسمبر 2023

اقترب المايكروفون المعدني الذي يلمع بين يدي المراسل من شابٍ فلسطيني خارجٍ من الأنقاض.. شاب له من العمر 16 عاماً ربما.. قال بنبرة تحدٍ: “لم أكن أتخيل في حياتي أن هذا الشرّ موجودٌ في الأرض”! لقد بدا حاسماً وجازماً رغم صغر سنه وتجربته القصيرة. قالها بإنسانية ترتجف من فكرة هذا الشرّ المطلق.

سؤال الشاب هذا، ذكرني برواية “الأخوة كرامازوف” للعظيم ديستويفسكي، حينما سرد تفصيلاً مهماً للغاية في فصل “الشيطان الصغير”، قد يفسر الشرّ المطلق الذي يصيب البشر، حيث تعترف الشابة ليز للقديس أليوشا كرامازوف بأنها تحب الشر والفوضى، وتجده جذاباً، وأن أكبر متعة لها هي مشاهدة الآخرين وهم يعانون،

تريد الشابة ليز إشعال النار في المنزل خلسة لكي تشاهد الآخرين وهم يحاولون إطفاءها يسأل القديس الشابة: لماذا تفعلين الشر؟ تجيب: “لكي يهلك كل شيء”! وتصرخ بغضب: “دعني أكون غنية والبقية فقراء؛ سوف آكل الحلوى وأشرب الكريمة ولا أعطي أي شخص آخر. ما يهم ليس القشدة، بل مشاهدة الجياع وهم يرغبون في الحصول على ما لا يمكنهم الحصول عليه. هناك القليل من المتع مثل الحسد الرائع”!

ديستويفسكي المتهم كالعادة (بمعاداة السامية) ألمح إلى أن ليزا هذه تعلمت الشر من قراءة الكتب عن ذبح الأطفال لدى اليديشيين اليهود! وكيف كانت تستمتع بفكرة أن الأطفال يئنون تحت وطأة الذبح. وفي عارض اتهام ديستويفسكي بكره اليهود الروس يرد الكاتب في مقال نشره مارس 1877: “ماذا سيحدث لو انقلب الوضع، وكان هناك 80 مليون يهودي وثلاثة ملايين روسي فقط. كيف سيتعامل اليهود مع الروس؟ هل سيسمحون لهم بأن يصبحوا متساوين في الحقوق؟ ألن يحولوهم مباشرة إلى عبيد؟ والأسوأ من ذلك: ألا يجردون النساء من ملابسهن تمامًا؟ أفلا يذبحونهم بالكامل، ويبيدونهم بالكامل، كما فعلوا أكثر من مرة مع الشعوب الغريبة في عصور قديمة من تاريخهم القديم؟”.

ألا يذكرنا هذا بالمقطع الذي ظهر البارحة على شاشات الأخبار حينما جرد الجنود الصهاينة المدنيين العزّل من ملابسهم؟

علينا الانتباه دوماً والتذكير دوماً أن مصطلح “يهودي” هو مصطلح اجتماعي أيدلوجي، كأن نقول “اشتراكي” وقد رأينا في الأحداث الأخيرة من اعتقل من اليهود أنفسهم بسبب رفضه لما يجري من تغول للجيش الصهيوني. لقد تناول العالم الأدبي والكهنوتي والسياسي والاقتصادي مصطلح “اليهودي” بوصفه صفة اجتماعية لا دينية، فهم بطقوسهم الخاصة رفضوا الاندماج مع أوروبا (المسيحية) وظلوا في كونتينات مغلقة طيلة مئات من السنين، لديهم تجمعاتهم السكنية المتجاورة ومحلات عبادتهم وأسواقهم ومهنهم التي لا يفرطون بها. وقد تناولهم العالم بوصفهم مصطلح اجتماعي. بحيث تأسس في اللا شعور أنهم لا يقبلون الآخر بوصفهم “شعب الله المختار” وأن الآخرين قردة!

يقول ديزيني: إن فكرة “الشر المطلق” هي فكرة صهيونية بامتياز! أن لا تهنأ بما لديك من مال وحسب، بل يجب أن يزول من يدي الآخرين، وأن لا تفرح بمنزلك الذي عمرته بل لا بد من هدم بيوت الآخرين!

ألا يذكرنا قول ديزيني بما يتداوله التجار الدمشقيون قديماً الذين يزعمون أن التاجر اليهودي كل صباح يفتح خزنة الذهب في داره ويملأ عينيه من لمعانه، ويشرب العسل الصافي قبل توجهه إلى حانوته، حتى إذا سأله جاره الشامي: كيف أصبحت؟ فيجيب اليهودي: الله لا يذيقك ما ذقته هذا الصباح ولا يريك ما رأيته!

لعل الأحداث الأخيرة حملت معها بشائر تحول الرأي العام، والانتباه الغربي بطبقته الوسطى والدنيا لهموم الفلسطينيين، وهذا في قادم الأيام ما سيصنع الفرق.

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.