نحو الثقافة المستدامة.. لو تطلب كنوز الهند والبحرين!

رحلة نص خبر إلى مركز الشيخ للثقافة والفنون

19 فبراير 2024

هاني نديم – البحرين

في أغنية يمنية قديمة يقول المغني: “بوهبلك كنوز الهند والبحرين واحطك في قلبي واقفلو بقفلين”! وكنت دوماً أتساءل عن هذا الثراء لبحريني الذي جعل الشاعر يقارنه بالهند، ثم تذكرت اللؤلؤ فزال عجبي!..

لم تتوقف البحرين عن تقديم اللؤلؤ للوطن العربي منذ آلاف السنين، ولا شك، أن الشيخة مي آل خليفة هي من لآلئها، سادنة الثقافة البحرينية وعاهلة الاستدامة التراثية، والتي حولت فكرة طوباوية جداً إلى واقع ملموس، “الاستثمار في الثقافة” وهو أمر يدعو للإعجاب بعد ما رأيناه من نجاح منقطع النظير.

بدعوة كريمة من الشيخة مي آل خليفة، جالت “نص خبر” في أروقة مشروع مركز الشيخ إبراهيم بن محمد للثقافة والبحوث رفقة أزميرالدا قباني، مديرة المكان والتي شرحت لنا بشكل وافٍ عن التفاصيل المدهشة حقاً.

الاستثمار في الثقافة.. مسؤولية اجتماعية وأرباح!

أطلقت الشيخة مي مشروع «الاستثمار في الثقافة» عام 2006م. هذه المبادرة غير المسبوقة في الشرق الأوسط، فقد ساهمت في بناء شراكة فعالة بين القطاعين العام والخاص، وتمكنت من تأمين أكثر من 200 مليون دولار أمريكي على هيئة مشاريع لدعم قطاع السياحة الثقافية، ففي عام 2019م، فازت البحرين بجائزة الأغا خان للعمارة عن مشروع «إحياء منطقة المحرّق».

لقد وضعت الشيخة مي العلاقة ما بين الثقافة والسياحة والتنمية المستدامة نصب عينيها، وهو ما دفع منظمة السياحة العالمية إلى تعيينها سفيراً خاصاً للسنة الدولية للسياحة المستدامة من أجل التنمية 2017م. كما تمكنت هيئة البحرين للثقافة والآثار تحت قيادتها من الارتقاء بشكل كبير بجهود الحفاظ والصون وتأسيس المواقع التي تروّج للسياحة التراثية. وبالفعل، تم تسجيل ثلاثة من المواقع البحرينية على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو.

مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث

 

يعد مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث من أهم المراكز الثقافية التي تلعب دورًا بارزًا في الحياة الحضارية البحرينية حيث يتولى المركز مهمة الإشراف على عدد من المشاريع التي تهتم بالحفاظ على ذاكرة البحرين وشعبها ويستضيف شخصيات ثقافية وأدبية بحرينية وعربية وعالمية ضمن ندوات ولقاءات دورية.

مجلس الشيخ ابراهيم

ولتحويل منطقة المحرق إلى مساحة ثقافية خالصة، استحوذ المركز على المنطقة ذاتها التي احتضنت مجلس الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، فضمّ عددًا من البيوت التراثية المتفرقة في المحرق إلى جانب بيوت تراثية أخرى في المنامة. وتبرز من هذه البيوت أهم الملامح البحرينية التراثية والتقليدية إذ تستضيف الحلقات الحوارية، المحاضرات، برامج الفلسفة، الأدب، الشعر، الثقافة والفنون.

لماذا المحرق:

لمدينة المحرق، خصوصية ما، جمالٌ آخر… لها تنفّسها الذي في كل مرة يحدث، يكون قد صار على وجه المدينة وجه إنسانٍ، أو بيت. وهكذا، تأتي الحكايات تباعًا، ثم تنجز المدينة أحلامها. ليست من مدينة فارغة من حلم، لكنه ابن المدينة الذي يؤمن، ويصنع، وينجز. وعن مدينة المحرق، فثمة من كانوا يشتغلون على حياكة قلبها، من يدققون نسج هويتها، ومن يضعون فيها شيئاً من ملامحهم كي يمنحوها ذاكرة.

وإن فككنا عمر المدينة (المحرق)، ثمة بيوت كانت تبقي ضوءها، ولا تنطفئ. ذلك أنّ باطن المكان هو ذاك الضوء. باطنه الإنسان الذي لا ينام قلبه وإن غاب، لذا فالحكاية تقول، أن حفيدة ما فتّشت عن ذلك الضّوء، فعادت إلى أصل المكان الذي ينبت منه. من هنا، فتح العمر حكاياتٍ متلاحقة، لمثقفين أخّر الوقت مواقعهم في الذاكرة، لرسائل كانت تعرف طريقها ما بين يد الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وبين شخصيات تحلم وتكتب وتفكر رغم فاصل المسافة، ولتفاصيل كثيرة، كانت تشتغل على نحت المعرفة،
وإنجاز الثقافة والعلوم.

من الموقعِ الأصل، لتلك المراسات الرسمية، وللأماكن التي جلس إليها المثقفون والمفكرون والأدباء والشعراء والسياسيون قديمًا، تمكن الرهان الثقافي من استعادة حكاية المكان، من منحها حياة أخرى وجعلها متصلة، بما كان يحلم ويسعى وينجز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة. ومن ذات المجلس الذي كان بيتا حميما للثقافة والمعارف، صارت الثقافة تصنعُ بيوتها ومشاريعها، كأنها تؤرّخ الثقافة هوية للمكان.

اليوم العمر الإضافي الذي منح لهذا المجلس 15 عامًا، عرفت فيها مدينة المحرق أكثر من 500 شخصية ثقافية وأدبية وسياسية، وصارت للأحلام بيوتًا عديدة، أمكنةً جميلة، تؤكد أن الجمال منقذٌ للعالم، وأن الثقافة رديفة للمحبة، وكلاهما طوق النّجاة.

المحرق هي مكان يعبق بالتاريخ، كما أنه محلة الشيخ محمد التي نشأ فيها، يقول الباحث والكاتب د. إبراهيم مطر: “لم تكن جزيرة المحرق بمعزل عن تحولات عمرانية وفكرية والأدب في المنطقة الإقليمية منذ عشرينات القرن الثامن عشر، أي بعد استقرار الشيخ عبدالله بن أحمد الفاتح في جزيرة المحرق. فالمحرق، مدينة استطاعت أن تضع نفسها على الخارطة الإقليمية والدولية، بالرغم من صغر مساحتها. فهي ارتبطت بإقليم الخليج، فهي خليجية الطبع، وارتبطت فكرياً وقومياً بالوطن العربي بأكمله، فهي عربية الصبغة والصفة، وارتبطت بالحضارة الإسلامية، فهي إسلامية اللون والشكل والهيئة.

فلا عجب أن حازت المحرق مؤخراً على لقب عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2018، حيث منحت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة المحرق، هذا اللقب نتيجة عراقة الموقع والتاريخ، فهي مدينة خليجية وعربية وإسلامية.. ومعهد الأدب والعلم والثقافة والتاريخ والتراث والعمران المتميز، التي لاتزال شواهدها ترصد هذا التاريخ الزاخر بالرغم من سيطرة عوامل الحداثة بحكم دوران الزمن. تمتلك المحرق أكثر من 200 عام من التاريخ ونشأة العمران المتميز ذات النقوش المعمارية الفريدة وللثقافة والاقتصاد والتجارة والحياة الحاضرة، والتي كانت محطة للدراسة. أما خلال الزمن قبل المعاصر، فقد ظلت المحرق العاصمة السياسية والاقتصادية والإدارية للبحرين حتى نهاية العشرينات من القرن الماضي. كانت المحرق الميناء الحيوي للبحث عن اللؤلؤ وميناء مهماً بذاته بين حضارات الشرق والغرب وخاصة خلال فترة تايلوس ومركزاً مهماً لتلك الفترة، فلا عجب أن يصل خلال 1904 عدد سفن البحث عن اللؤلؤ والتي انطلقت من المحرق ما يزيد على 600 سفينة و11555 رجلاً بحاراً، بينما وصل عدد السفن من البحرين بأكملها 917 وبنحو 17633 بحاراً”.

تنقلنا في أروقة المركز حيث رأينا المكتبة وصور من زاروا المركز من كبار المفكرين والكتاب في الوطن العربي والعالم، وزرنا بيت الذاكرة حيث مجلس الشيخ ومكانه الذي يستقبل فيه ضيوفه، وقد كان الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة رائداً في مجالات التربية والثقافة والعلوم الاجتماعية، وكان من أوائل المتنورين العرب، وتميز في سعيه للحصول على المعرفة والتنوير، وقد حافظ على المراسلات مع الشخصيات المؤثرة من جميع أنحاء العالم من مجلسه في المحرق.

رسالة الشيخ إبراهيم لأمين الريحاني

 

منذ افتتاحه عام ٢٠٠٢، استقبل مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث أكثر من 500 مفكراً وشاعراً ومحاضراً. شارك هؤلاء الأفراد وجهات نظرهم أسبوعيًا كجزء من برنامج المحاضرات بالمركز.

قام المركز بتجديد أكثر من عشرة منازل بحرينية تاريخية في مدينتي المحرق والمنامة. تنتمي العديد من هذه المنازل إلى شخصيات أو عائلات بارزة في البحرين. مثل بيت محمد بن فارس لفن الصوت للحفاظ على التراث الموسيقي في البحرين. وذاكرة المكان المستعادة – بيت بن مطر للحفاظ على الذاكرة المرتبطة بالعمارة المتميزة، وهي عائلة بارزة في تجارة اللؤلؤ البحريني، ولكنه أيضًا أحد أروع الأمثلة على العمارة البحرينية التقليدية.

أما بيت الكورار ومدرسة حرف الديار للحرف اليدوية مجتمع الفنون والحرف المحلية والحرفيين الذين يعملون في هذه المجالات. كما اطلعنا على البيوتات الأخرى كمركز تعليم الأطفال، حيث يتعلمون اللغة العربية والرسم ويمارسون أنشطة ثقافية.

 

بيت الصحافة، بيت عبدالله زايد:

افتتح بيت الصحافة البحرينية باسم عبد الله الزايد الذي أسس مطبعة البحرين الحديثة ومكتبتها في العام 1932، ومن ثم أسس دارا للمسرح والسينما في العام 1936، وبعد ذلك أصدر «جريدة البحرين» العام 1939.

عبد الله الزايد كان رائدا لصحافة البحرين التي تصدّرت مناطق الخليج. واحتفالنا بذكراه هو تذكير بماضينا وبإمكاناتنا وبما نستطيع القيام به. وما كتبه الزايد من شعر وفي صحيفته يعبر عن فكر متنور ومتطلع الى الوطن العربي بأكمله.

 

بيت الشعر، بيت إبراهيم العريض:

عندما تخلّى عن جسده وهذا العالم، تركَ للشّعر بيتًا، لأغراضه مكانًا، وللقصائد التي أحبّها جدرانًا كي تبقى. الشّاعر الكبير البحرينيّ إبراهيم العريّض، وكلّ الذي اختزنه في سيرته الكتابيّة والأعمال التّرجميّة، استبقاه مركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافة والبحوث في مدينته التي إليها ينتمي (المنامة) فكان بيت الشّعر – بيت إبراهيم العريّض هو الأوّل من بيوت المركز الثّقافيّة خارج مدينة المحرّق.

هذا البيت، تحوّل من البيت الشّخصيّ للشّاعر العريّض إلى بيت الشّعر من كلّ مكان، حيث تنعقد الاجتماعات الخاصّة بالشّعر والشّعراء، بالإضافة إلى مرافق مكانيّة صغيرة ضمن البيت يتمكّن من خلالها الزّائر من الاستماع إلى شعر العريّض، قراءة المعلقّات العربيّة، زيارة المكتبة التي تتضمّن دواوين شعر من مختلف نتاجات العالم، إلى جانب إمكانيّة زيارة المكتب الخاصّ لإبراهيم العريّض ومحتوياته الشّخصيّة.

بيت الشّعر، الذّاكرة المكانيّة الوفيّة للشّاعر إبراهيم الذي أثرى اللغّة العربيّة بمنجزه الشّعريّ وترجماته للخيّام، قد تمّ الاعتناء به عبر شرائه وإعادة ترميمه بدعمٍ كريمٍ من الشّيخة سعاد الصّباح، الصّندوق العربيّ للإنماء الاقتصاديّ والاجتماعيّ وبيت التّمويل الخليجيّ.

منامة القصبي:

برهانٍ ثقافيّ على قدرة المكان أن يفي لِمَن يحبّ، وبقدرةِ المعمار على النّجاةِ بحياةٍ أخرى للملامحِ التي منحَت المدينة جزءًا من الذّاكرة، يكرّسُ هذا المعمار التّاريخيّ مكوّناته لاستعادةِ سيرةِ وتاريخِ الدّكتور غازي القصيبيّ الذي ألهمَ المشهدَين الدّبلوماسيّ والثّقافيّ العديد من الملامح والمنجزات، إذ ينسجُ حلمُ (منامة القصيبيّ) بقلبِ هذا البيت التّاريخيّ عروضه، كي تحكي عن سيرته، المدن التي مرّ بها، نتاجاته الأدبيّة والكتابيّة، بالإضافةِ إلى شعره المرهف، ومجموعة من مقتنياته وأدواته.

ما يمزُّ (منامة القصيبيّ) هو إبداعُ معمارهِا وجماليّته، حيثُ البيتُ التّاريخيّ والتّراثيّ لعائلة القصيبيّ يتضمّن العديد من الجماليّات الهندسيّة الدّقيقة التي تمّ إبرازها، بالإضافة إلى العروض المتحفيّة المتنوّعة، فيما يمتدّ الجزء المعاصر من المبنى بتصميمٍ مبدعٍ ويتشكلّ بهيئة مقهى في قلبِ فريجِ الفاضل بالمنامة التّاريخيّة.

 

وقد قام المهندس المعماريّ العالميّ (كريستوف مارتن) بإيجادِ الهويّة البصريّة وتصميمِ المكان بنصفيه: التّاريخيّ والمعاصر. من جهةٍ أخرى، فقد ألهمَ ماديسون كوكوس المسافةَ ما بين الجزءِ التّراثيّ والآخر المعاصر حديقةً خضراء، تتسللُّ من خلالها الطّبيعةُ إلى قلبِ البيتِ، وتمنحُه بيئةً وارفةً وملهمة. أمّا العروض الرّقميّة فقامت بتجهيزها شركة (ميدوز) التي استدرَجت صوتَ غازي القصيبيّ سردًا وشعرًا، بينما منحَ المصمّم عمّار بشير للمقهى الملحق بمنامة القصيبيّ جماليّات تصميميّة معاصرة.

يعودُ البيتُ التّاريخيّ الذي تمّ ترميمه وإعادة تأهيله واستعادة جماليّاته إلى عائلة خليفة القصيبيّ، التي أهدَته إلى مركز الشّيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثّقافةِ والبحوث كي تستقرّ ذاكرة غازي القصيبيّ في ذاتِ مدينةِ طفولته، فيما تمّ دعم مروع التّرميم وإعادة التّأهيل من قِبَل صاحب السّموّ الملكيّ الأمير الوليد بن طلال آل سعود عبر (مؤسّسة الوليد للإنسانيّة)، حيث تمّ افتتاحه بتاريخ 2 مارس 2019 م.

 

الركن الأخضر:

اختتمنا جولتنا في الرّكنُ الأخضر، وهي تحفة معمارية رمزيّةٌ فنّيّةٌ وجماليّةٌ وطبيعيّةٌ، أزهرَت فكرتها الأولى في (عامِ زايد)، وانتصرَت بمحبّةٍ لما آمن بهِ قائدُ سيرتها الذي كان ينجو بالجمالِ: حدائق ومزارع وملامح طبيعة، ولأنّه يدركُ أنّ الأوطانَ هي ما تنتمي إليهِ بقلبك وليست مجرّد حيزّ جغرافيّ، فإنّ محبّته – رغم الغيابِ – مثلَ نهر يحملُ الحلمَ أينما اتّجَه.

وهنا في المحرّق العريقة، ولدى الحديقةِ العموديّةِ، تتصاعدُ هذه المحبّةُ ركنًا أخضر، بمقياسِ الطّبيعةِ في الإيناعِ والحياةِ، وبرهانِ المعرفةِ التي هي منحٌ عميقٌ أيضا،ً إذ يحتضنُ هذا الرّكنُ مكتبةً أرشيفيّةً للفنّ في مملكةِ البحرين، تستدعي الوثائق الفنّيّة والكتب واللوّحات كي يتمّ حفظها وترميمها من أجلِ ذاكرةِ البلادِ. كما ينجزُ الرّكنُ ضمنَ تفاصيله مكتبةً تُعنى بالعلوم الطّبيعيّة والبيئيّة، المشاهد الطّبيعيّة الثّقافيّة الخضراء والتّنمية الزّراعيّة.

هذا الحلمُ تحقّقَ بدعمٍ كريمٍ من دولةِ الإمارات العربيّةِ المتّحدة، تكريسًا لعطاءٍ قائدها وملهمها المغفور له بإذن الله الشّيخ زايد بن سلطان آل نهيّان طيّب الله ثراه في المئويّة الأولى لذكراه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.