ملامح البدايات – أيمن زيدان

اليوم الأول

في الليلة التي سبقت اليوم الأول من الدوام في المعهد جافاني النوم وجلست على شرفة بيتنا الصغير تهاجمني دون توقف صور مفترضة للمكان والطلبة، لم يسبق لي أن شاهدت مبنى المعهد ولم أتعرف على زملائي الجدد، فكل ما أعلمه أننا ثلاثة وعشرون شاباً وفتيات ثلاث، كانت الصور المتخيلة للمكان قد رسمتها في مخيلتي النشطة ومرجعيتها اليتيمة مشاهد الجامعات في الأفلام المصرية، مكانٌ رحبٌ وفسيح، ولقاء مع زميلة لي تنشأ بيننا علاقة حبّ وشراكة متواصلة طوال سنوات دراستنا الأربعة وتستمر حتى تخرجنا وعملنا معاً في المستقبل. لا أدري كيف انتفض العاشق الافتراضي في روحي وبتّ بانتظار الصباح بشغف، وقبل الموعد المحدد للدوام ركبت ميكروباص دمّر، وهي إحدى ضواحي العاصمة حيث المنطقة التي يقع فيها المعهد.

وصلت لأجد نفسي في مكان لا يشبه كل ما تخيلته، لم يكن أكثر من بناء متواضع مؤلف من حولي أربعة غرف ومحاط بحديقة عامرة بأشجار باسقة، في بوابته الرئيسية عمودان من الحجر ودرج متوسط الارتفاع يعطي للمدخل إحساساً مهيباً، أما ما عدا ذلك؛ فقد كان كل شيء على غاية من التواضع لكن شغفنا كان يرينا إياه قصراً منيفا.

كنت من أوائل من وصلوا المعهد، فأنا لم أنم في تلك الليلة، ما هي إلا دقائق حتى دخلت صبية ترتدي معطفاً أحمر ونظارات طبية، ببشرة سمراء جابة وابتسامة تقتحم روحك دون استئذان. تعارفنا.

  • أنا أيمن.
  • وأنا أمانة.

سرنا معاً في أرجاء المعهد نتعرف عليه ونكتشف تفاصيله التي سنعيش معها سنوات أربع، وبسرعة البرق، زالت كل الحواجز بيننا وتحولنا إلى صديقين في لحظة، كنت أحس أن ما تراءى لي بالأمس سيتحقق، انتفض العاشق الافتراضي في داخلي ثانيةً وسرحت مع صور الغد كما تخيلته بالأمس، انتهت جولتنا العابرة وتوافد بقية الطلبة وتعاملت أمانة مع الجميع كما تعاملت معي بودّ وصفا. عندها أدركت أنني عاشق واهم، وعدت أرى نفسي كما أيام مراهقتي الأولى في قريتي عاشقاً من طرفٍ واحد.

 

المسرح الأهلي

كان تشكيل فرقة احترافية واحداً من أحلامي التي دافعت عنها طويلاً منذ خوض تجربتي المريرة مع فرقة المسرح الكوميدي، فقد كان لدي قناعة شبه مطلقة بأنه يمكن لنا أن نقدم عرضاً مسرحياً جيداً في فرقة للمسرح الخاص، وأن كل ما تطلبه الأمر هو وجود مجموعة تمتلك درجةً عالية من الرغبة والحماسة وهاجساً حقيقياً لتقديم عروض خاصة ولكن على سوية جيدة، تطورت الفكرة في ذهني وتبلورت حين ترجم لي د.نبيل الحفار مسرحية “لاتدفع الحساب” للكاتب الإيطالي داريو فو، ها نحن الآن أمام نص كوميدي متفرد، سواء على مستوى أهمية المحتوى والحامل الفكري أم على مستوى البناء الفني والفرجوي، كانت سعادتي غامرة وأنا أقرأ مخطوطة الترجمة الأولى والتي – للحق – ترجمها نبيل الحفار برشاقةٍ ودقة. صارت اللحظة مواتية للتفكير بتكوين التجمّع، خاصة وأن أول المشاريع قد أصبح جاهزاً، فنصّ “لا تدفع الحساب” مشروع شبه نموذجي من حيث القيمة المعرفية والجمالية ومن حيث التكلفة البسيطة.

تبادلت أطراف الحديث مع ممثلةٍ كبيرة، كنت أراها أفضل من يؤدي شخصية “أنطونيا” بطلة المسرحية، وهي السيدة سامية الجزائري، اتفقنا على التفاصيل وضمت الفرقة حينها بالإضافة لي ولسامية، سلوم حداد والراحلين محمد شيخ نجيب ونذير سرحان وحسن دكاك، ومعنا رشاد كوكش وإنجي يوسف، زميلة الدراسة في المعهد. اتفقنا أن أتولى أنا مهمة الإخراج والدور الرئيسي، بينما سيلعب نذير سرحان مع محمد شيخ نجيب بالتبادل دور “لويجي” ويقوم رشاد بمهام مساعد الإخراج ومتابعة الأمور الإدارية.

سلّوم تولى بحكم دراسته للفنون الجميلة تصميم الديكور وبوستر المسرحية الذي كان عبارة عن مجموعة صور للشخصيات، وقد خرجت من إحدى المعلبات الاستهلاكية، وبمساعدة من حسن دكاك، حصلنا على قاعة في ثانوية زكي الأرسوزي بدمشق، وبدأت تدريباتنا التي أخذت شكلاً مغايراً لطبيعة التدريبات السطحية التي تحكم تجارب القطاع الخاص عادةً، حللنا الشخصيات وحددنا مقولة العرض، وتناقشنا في كل تفاصيل صياغة مشاهد المسرحية. لقد بذلنا جهوداً جبارة للوصول إلى مستوى غير مسبوق في المسرح التجاري.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.