“الصفر” يعني إبدأ التحليق – مفيد النويصر

مفيد النويصر

طلب مني صديقي نديم أن أتحدث عن رحلتي أنا “من الصفر”، وهي قضية نادراً ما أواجهها وأكون فيها أنا المسؤول لا السائل، إلا أنني سأمرّ على تلك الرحلة سريعاً دون الخوض في تفاصيلها لعلها تفيد أحداً ما في أصقاع الأرض.

لا يوجد رحلة نجاح سهلة، هذا أمرٌ يكاد يكون قطعياً، الفرق بالتفاصيل والزمن. بدأت رحلتي المهنية في عالم الصحافة من صحيفة “المسلمون” الدولية أواسط التسعينيات وعملت بها إلى أن أغلقت وتم تسريح العاملين فيها بسبب تخفيض النفقات، ومن هنا بدأت رحلة البحث عن عمل جديد. أذكر أنني وقفت على باب العضو المنتدب للمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق آنذاك تسعة أشهرٍ، مصراً على أن أظل في أروقة الصحافة التي عشقتها، وفي أحد الأيام قال لي سكرتير العضو المنتدب أنه توجد وظيفة موظف أمن ومصمم صفحات في صحيفة “أوردو نيوز” المكتوبة باللغة الأوردية، الأمر الذي يعني أنني يجب أن أتعلم اللغة لأستطيع ترتيب الصفحة! وبالفعل قررت تعلم الأوردو لأحظى بالوظيفة وأن تكون سبباً لبداية رزقٍ جديد، كما عملت كموظف أمن في النصف الثاني من اليوم، حتى لا تضيع الفرصتان.

حينما عرف العضو المنتدب بقصتي وأنني بقيت على بابه تسعة أشهر كتب في ورقة صغيرة قرار نقلي وتعييني في مقر الشركة  بلندن، ولك أن تتخيل الفرح بعد أن كان سقف طموحي الأعلى أن أرتب صفحات جريدة الأوردو أو موظف أمن، أصبحت فجأة في عاصمة الضباب.  وكان هذا صعباً بعض الشيء إذ عليّ ترك أمي ومسؤولياتي وإخوتي.

عائلتنا مكونة من أم وأحدى عشر من الأخوة، الأمر الذي اضطرني إلى العمل باكراً لأعيل أخوتي الصغار. في بداية حياتي عملت حداداً بين يدي معلم باكستاني وكنت أقوم بسنفرة وقص الحديد فتسببت في قطع بطن أصابعي، بعد ذلك قررت أن أغير المهنة. وعملت بسوق الخضار وكانت تلك مرحلة شرسة وصعبة بكل معنى الكلمة، ثم عملت في التخليص الجمركي بمطار جدة وكنت لم أبلغ سن البطاقة المدنية بعد، ورغم ذلك توجهت مشياً إلى مطار جدة لأسأل عن اسم كنت أسمعه من شاب لدينا في الحارة وتوصلت إليه في قسم التخليص الجمركي، وبعد أول لقاء بالرجل الذي سيوظفني في مكتبه، رفض أن أعمل معه لأني لا امتلك بطاقة شخصية، وحينما خرج من عمله وجدني على طريق المطار أمشي متجها لوالدتي.. فتوقف بسيارته وأقلني. وحينما عرف قصتي ولمس إصراري وافق على عملي معه وتكفل هو بموضوع تعيني بدون بطاقة أحوال، وهذا ما جرى، أصبحت أصغر مخلص جمركي في مطار جدة، وعملت بشكل محموم لأنني كنت مضطراً لأن أعود وأدرس ولا أتأخر عن أمي وأخوتي.

لقد علمتني تلك المرحلة أن أرسل لأهلي من لندن لاحقاً 90% من راتبي وأتدبر أمري بنقود لا تكاد تذكر طيلة الشهر وأعيش في غرفة ضيقة للغاية تحت الأرض بالغة البرودة. لقد علمني العمل باكراً الجرأة والمواجهة والتحدي والقوة، مع الكثير الكثير من الصبر والاحتمال واحترام الآخر أيا كانت جنسيته أو لونه.

بعد عودتي من لندن طلبني صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن سلمان رحمه الله، وكان وقتها رئيس مجلس إدارة المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق وذلك كي نؤسس إدارة لتطوير المطبوعات لعمل جميع الملاحق المتخصصة والحملات الإعلانية للشركات الشقيقة بالكامل، وبعد دخول الطباعة الملونة أصبحت من السعوديين القلائل الذين حظوا بتجربة متعمقة في مجال تأسيس مشاريع الطباعة الملونة.

هذا هو مفترق الطرق مهنياً، إنما إنسانياً فطريق النجاح بدأ من ترويض إنسانيتي مبكراً حيث كنت أصرف على والدتي وأخوتي وأنا صبي صغير، وعملت في قيادة الشاحنات وسوق الخضار بين العمال الآسيويين وتحملت ما تحملت، وهذا ما جعلني أقف 9 أشهر على باب العضو المنتدب لأحظى بفرصتي التي وجدتها وأحببتها وبرعت بها بعد معاناة طويلة مع التعب والقهر.لهذا أنا اليوم أقدم ضيوفي بكل شغف واهتمام وتفهم، وما يحكيه ضيفي يعبر عما في داخلي فأنا أيضاً لست مترفاً ولم آت من بيئة مرفهة. وأؤكد من خلال تجربتي أننا يجب أن لا نحكم على الناس بمقدار ثرواتهم ونجاحاتهم، فقد يكون هذا الثري غير سعيد ربع ربع سعادة عامل مطعم،  فاستمتع بما يرضي الله وافعل الخير الذي سوف تلقاه. واقتنع بقدرك المكتوب وحاول تغييره بالعمل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.