كلّهم قتلوا أمّي

1 يناير 2023

 

 

 

 

 

 

 

جود سعيد – مخرج وسينمائي سوري

ضبطت ساعتها على تمام الخامسة صباحاً فطريق المطار ينتظرها، ورتّب الوقت إيقاعه على تواتر دمعها كموسيقى وداع جنائزية لمسقط رأسها. لم يكن ذلك الشتاء بارداً بما يكفي، فالسماء تعرف أن جراح المدينة لم تعد تحتمل الألم. وحده ذلك الطريق الذي يشق خاصرة المدينة نازفاً مستقيماً نحو المجهول، نحو معدن طائر سيحملها بعيداً، ذلك الطريق وحده اعتاد حكايا ألم المغادرين..

ألمٌ ، لم يقسوا على دروايش الفجر الراكضين خلف لقمة عيش أولادهم، لم يكن ثلجه قد لبس المدينة بشوارعها بشبابيكها وحتى بفقرائها، حقيقة الأمر أنه لم يكن يجرؤ على القسوة، هذا ما همس به لها ولحبيبها، العاشقان المفلسان، اللذان سهرا على رصيف بارٍ، لعلهما يسرقان بعض الموسيقى دون الخوف من العقاب، فسرقة الموسيقى لم يلحظها جباة المكاتب المعدنية الجديدة.

عاشقان ضحكا حد القهقة لحظة اقتربت منهما متسولة الحي الصغيرة ذات الشعر الأرجواني أو ملكة الحي كما يحلو لمرتاديه تسميتها.. دفّأ الشتا قلبه من ضحكتهما وأمطر كي يخفي دمعة الصبية وهي تهمس للملكة أنها لا تملك أجرة العودة للبيت وأنها استدانت ثمن تذكرة الطائرة وأن حبيبها سيودعها ويمشي ويمشي حتى تصيح به الشمس وتدلّه الى طريق البيت.

لم تفهم الارجوانية ولا الشتاء ذلك، لم يفهمه سوى حبيبها الذي يعمل فجراً عتالاً في سوق الهال ومساءً معاون سرفيس وليلاً حارس باب مربع ليلي ويرتاد الجامعة في ما بقي له من وقت، امتعضت الارجوانية واتكأت على خد المطر، “الفقر ليس عيباً، العيب ألا تفرحا، انظرا لكل هذا الموت الذي أتى ، لقد غلبته لأن الله يحبني” ،”أريد أمي” وبكت أمي “قتلها البرد والقطار الذي وعدتني أنه سيأخذنا بعيداً، ولم يأت، وقتلها سارق المازوت، ولص الخبز، كلهم قتلوا أمي حتى ذاك الموظف السمين النائم.. ولكن الله وعدني أنه سيريهم صورة أمي ويسألهم ما ذنبها! أما أنا فقلت له أن يسامحهم. فهم لم يروا كم كانت جميلة ” وبكى الحي وكذلك الموسيقى وشرطي المرور بكى وهو يرتشي ليطعم حفيدته وحتى القط اللئيم (كارلوس الأعور كما سماه عامل نظافة الحي، أستاذ التاريخ المتقاعد) ذرف الدمع واعتذر من العصفور النائم أنه كان سيغدره، بكى كارلوس وحلف أنه سيصبح نباتياً.

بصخب شديد أوقفت سيارة فارهة الدمع وغسلته بمرور إطاراتها على بركة ماء وضيعة منتصف الطريق فاستحم البكّاؤون واستفاقوا.. فجواز السفر غرق ولم يعد صالحاً حتى للسفر.

*صورة الغلاف من فيلم “مطر حمص” للمخرج جود سعيد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.