الخواء في الفن

3 مارس 2024

 

 

 

 

 

 

 

 

رانيا كرباج – فنانة تشكيلية وكاتبة سورية

ونحن نلقي نظرةً على تاريخ الفنّ منذُ تلكَ الرسومات التي اكتُشِفت على جدران الكهوفـ، وصولاً إلى فنون الحضارات القديمة و الفن الكنسي، ومن ثمّ عصر النهضة وما تلاهُ من مدارس فنيّة، لا بدّ من أن نتساءل: أيكون الترويج للخواء و اللامعنى في عصرِنا مرحلة طبيعية من مراحل الصعود والهبوط التي تحكم التجربة البشرية؟ خاصّةً وأنّ الكثير من فنونِنا بلغت ذُرى مرتفعة من التطوّر والتَعقيد بحيث أصبحت الحاجة مُلحّة إلى ما يسمى استراحة مُحارب، أمّ أنّه كما يرى البعض، جزء من سياسة تهدف إلى تحويلِنا إلى قطعانٍ غبيّة؟

قد يكون الفنّ في جوهرهِ هو أحد مظاهر وعي التجربة الإنسانية، وما آلت إليه وما ستؤولُ إليه، فالفنانُ، بحسبِ رأيي، هو شخصٌ مهمّتهُ أن يشعرَ أعمق وأن يفكّرَ أوسَع، ذلكَ أنّ الطبيعةَ وَهبتهُ جهازاً عصبيّاً فائقَ الحساسيّة، وقرنَي استشعار، هما موهبتَهُ كلّما سقاها وصقلَها اتّسعَت لديه الرؤيا، العلاقة بين نمو الموهبة واتّساع الرؤيا هي علاقة طرديّة، أمّا ما يكتسحُ عالمَنا اليوم من موضات، ومقولات ضيّقة في الفن، سوف تتلقّى بعض المال مقابل التغريد ضمنَها، لكنّكَ في المُقابل سوف تدفعُ حريّتَك، حرية الفنان ليست بذخاً، وإنّما الحرية هي بمثابة قوت للمبدعين، فالأفكارُ والأشكالُ والموسيقا لا تتولَدُ إلّا من الأرواحِ الحرّة، أو بصورةٍ أدَق تلكَ التي تخطو على دربِ حريّتِها، أمّا السجينةُ فلا يسعُها سوى أن تكرّر ما قيلَ و ما يُقال، دون أن تُضفي ظلّاً أو تضيفَ وجهةَ نظر.

من هنا كان تدجين الفن والفنانين ضرورةً مُلحّةً من أجلِ خلقِ عالمٍ مُطيعٍ، لا يفكّر ولا يستنكر، تُرمى له المواد الاستهلاكيةُ و الحروبُ و النشرات الكاذبة، ليلهو بها بعيداً عن عالم الأفكار، إذ لطالما أخاف عالمُ الأفكارِ رعاةَ العالم، لذا راحوا يصفّونَ أتباعَهُ، إمّا بالقتلِ أو الإقصاء، منذُ أثينا التي أجبرت سقراط على اجتراعِ السمّ، ثمّ حكمَت على أفلاطون بالموت في الإقامة الجبريّة، ما جعل أرسطو يفرّ منها لاحقاً مُطلقاً مقولتَهُ الشهيرة ” لن أسمح للأثينيينَ أن يرتكبوا الخطيئةَ نفسَها مرّتَين ضدّ الفلسفة”،  وصولاً إلى العصور الوسطى في أوروبا، حيث كانت الكنيسة المسيحية مهيمنةً على السياسةِ والفنّ في آن، فتشكّلت في عهد البابا غريغور التاسع محاكم التفتيش، وكانت مهمّتها ملاحقة و محاكمة المتمردّين على الفكر الكاثوليكي، كذلك لم ترحم العلماء والفلاسفة حين بدؤوا يطرحونَ أفكاراً تهزّ أساسات سلطتها، أمّا تاريخنا العربي فمليءٌ بقصص قتل المُفكرين و إقصائهم، من منا ينسى “ابن المقفّع” صاحب كتاب “كليلة و دمنة”، الذي قتلهُ الخليفة العباسي ” أبي جعفر المنصور” ، وابن الرشد الذي تم نفيُه وإحراق كتُبه، والسهروردي الفيلسوف الذي قتلهُ “صلاح الدين الأيوبي”، كذلكَ الحلاج الذي صُلِبَ حيّاً، و بُتِرَت يداه و رجلاه، ثمّ أحرقَ بالنار، وكان ذلكَ في عهد الخليفة العبّاسي المُقتدر بالله، أمّا في تاريخنا الحديث، فمن قتلَ أنطون سعادة وفرج فودة وناجي العلي وسواهم ممن لا يتسّع المقال لذكرهم.

ابن رشد

تمجيد الشر

لكن، إذا كنا نفهم تسخيفَ الفنونِ وتدجينَها على أنّه محاولة للسيطرة على القَطيع البشري، وتسييرهِ حسبَ ما تقتَضيهِ مصالح الرعاة، فكيف نفسّر ظاهرة القباحة والشياطين التي تكتسحُ فنون اليوم! سابقاً كان الشيطان، أو رمز الشرّ هو أحد شخصيات المشهد الفني، سواء كان لوحة أو شعراً أو مسرحاً، أمّا تسليط الضوء عليه فكان بهدف فضح ألاعيبِه وحيَله، التي ينسجُها كي يخلطَ الأوراق ويضلّلَ النفوسَ الخيّرة، صحيحٌ أنّ المبالغة في تجسيد الشيطان في كثير من فنونِ العصورِ الوسطى في أوروبا، كانت تهدفُ إلى إخافةِ العامة وردعِهم، على اعتبارِ أن الفن كان وقتَها خاضِعاً لسلطةِ الكنيسة الكاثوليكية، ثمّ و مع بداية عصر النهضة بدأت الحضارة الغربية تتصالحُ مع شياطينها، إذ سادَ الاعتقاد على سبيل المثال، أن لوسيفر الذي تمّت شيطنَتهُ كان رئيساً للملائكة، تمرّد على الربّ المتعالي على عرشهِ لصالح الإنسان والإنسانية، أمّا ليليث التي كانت رمز الشرّ الأنثوي، لم تكن سوى امرأةً حرّةً، طردها آدم وطلبَ من الربّ أن يخلقَ له أخرى مُطيعة، فكانت حواء التي خلقَها الله من ضلعِ آدم كي تبقى تابعةً له، ولكن، ومع ذلكَ تمّت شَيطنَتها هي الأخرى، تلك المصالحة مع شياطين العصور السابقة كانت مهمة من أجلِ الاِنعتاق من قيد الدين، والمضي قُدُماً.

لكنّنا اليوم نشهدُ ترويجاً يهدفُ إلى تمجيد الشرّ، وجعلِ الشيطان جزءاً من حياتِنا، فعلى صعيد الفن التشكيلي مثلاً أصبحَ المهتمّونَ بالجمال مُتّهمونَ بالرجعيةِ حيناً، والتغريدِ خارجَ السربِ حيناً آخر، أعتقد أنّ موجة القبح الحقيقية التي اجتاحت عالم الفن التشكيلي بشكلٍ خاص، كانت عندما تخلّى الفنانون في الغرب عن كلّ المعايير التي كانت سائدة سابقاً، لتدخل اللوحة في مرحلة من الفراغ التشكيلي الحقيقي، إن هذا الأمر تمّ، في طبيعة الحال، بدعم من جهات ومؤسسات ربما تعمل وفق أجندات، أو أنّها تركبُ الموجة الرائجة فحسب، لكن سياساتها الإقصائية تحاصرالفنان والباحث الحقيقي وتجعلُه يسقط في جبّ من العزلة والشكوك.

الإفراغ من المعنى

كذلكَ بالنسبةِ لعالمِ الشعر، إذ تمّ إفرِاغ القصيدة من رسالتِها الجمالية و الأخلاقية والسياسية، والأخطر هو إفراِغها من جذورِها، بمعنى اتصالِها مع ما سبقها من بحث فكري وروحي وفلسفي، لتتحوّل إلى مجرّد هذيان، يقومُ على تركيبِ صورٍ وعباراتٍ لا طائلَ منها ولا مغزى، طالما أنّها لا تُبنى على دفق من أفكارٍ ومشاعر تعتَمل في قلبِ الشاعر، وإنّما على فراغ.

أما إذا كان نتاج الفنان هو مزيجٌ من خبرتِهِ و معرفَتِهِ على صعيدِ المادّة والتقنيات، ومن تجربَتِهِ على صعيدِ الروح، فيبدو أنّ تطوّره مرتبط بتطوّر الاثنين معاً، لقد قدّم الفن الاوروبي على سبيل المثال، ما يشبهُ المُعجزات على صعيدِ الرسمِ والنحت، إذ لاتزالُ الكنائس والمتاحف تعجّ كلّ يومٍ بالمؤمنينَ والمُلحدين اللذين يتوافدونَ من أصقاعِ الأرضِ، لكن أيعقل أنّ هذا النتاج الذي يمنحُ اوروبا جلالاً وجمالاً، ومصدرَ دخلٍ لا ينضب له معين، هو ثمرة تطوّر تقني فقط، أم أنّه كان ثمرة نمو فكري وروحي أيضاً؟ يُقالُ إنّ العصور الوسطى بدأت في اوروبا مع انهيار الامبراطورية الرومانية، وانتشار الأفكار المسيحية، حيث  ازدهر الفن الكنسي  مستفيداً من إرث مشرقي- بيزنطي- سرياني، ومن ثقافة فنية بربرية كانت منتشرة في شمال أوروبا،  أمّا بداية عصر النهضة الاوربية فقد تزامنت مع انهيار القسطنطينية، وتدفّق فنونِها وعلومِها صوبَ الغرب، والأهم من ذلك كان العودة إلى التراث اليوناني الروماني الذي أقصتهُ الكنيسة المسيحية بتهمةِ الوثنيّة، حيث بدأ الفن بالتخلي عن مهمّتِه كوسيلة لنقل النصوص المقدّسة من وجهة نظر الكنيسة، ليخطو أبعد على الصعيد التقني و الفكري، إذ استلهمَ الفنانون مواضيعهم من الميثولوجيا الإغريقية، كما بدؤوا بنقل مشاهد من الواقع، لتتوالد بعدها المدارس الفنية، التي أعطت أوروبا  ثقلاً و قدرةً على التأثير على الحركات الفنية في كافة أنحاء العالم.

أمّا اليوم إذا كنا نشهَد محاولات من أجل إفراغِ فنونِ عصرِنا من كلّ فكرٍ و إحساسٍ ورؤيا، كي تخضعَ لمنطق الاستهلاك من أجلِ الاستهلاك، وإذا كنا نعيشُ في عصرِ التطوّر التقني والمادي البحت، فإنّنا للأسف نفقد تدريجيّاً التجربة الروحيّة التي برأيي لا تنفصل عن تلكَ الماديّة، وإن انفصلَت سيتحوّلُ العالمُ إلى وحشٍ، لن يلبثَ أن يلتهمَنا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.