رحيل المايسترو الأسطورة.. الياباني سييجي أوزاوا

16 فبراير 2024

نص خبر – متابعة

توفي المايسترو الأسطوري سييجي أوزاوا أحد أشهر قادة الأوركسترا في العصر الحديث، بعد عمر مديد قضاه في التأليف الموسيقي.

أوزاوا لم يترعرع في أحد بيوت النخب الموسيقية، بل كان نجاحه في عالم الموسيقى الكلاسيكية نابعاً من عمله الجاد وديناميكيته وجاذبيته الشخصية، وهي صفات اجتمعت لتصل به إلى قمة عالم الموسيقى الكلاسيكية.

في 1 يناير/ كانون الثاني 2002، ظهر أوزاوا مع أوركسترا فيينا الفيلهارمونية في حفل رأس السنة، وهو تقليد سنوي يعود إلى 60 عامًا مضت، ويتم بث هذا الحفل عبر التلفزيون في أكثر من 60 دولة حول العالم. لذا فإن المشاركة فيه تكون بمثابة تاج على رأس أي قائد أوركسترا – لا سيما بالنسبة لأول ياباني على الإطلاق ينال هذا الشرف – ولكن بالنسبة لأوزاوا، لم تكن مشاركته سوى مجرد إضافة أخرى لسيرته الذاتية المذهلة.

خلال حياته المهنية، عمل أوزاوا لمدة 30 عامًا تقريبًا كمدير موسيقي لأوركسترا بوسطن السيمفوني، وهي إحدى أفضل فرق الأوركسترا في أمريكا. في عام 2002، وهو العام الذي ظهر فيه مع أوركسترا فيينا الفيلهارمونية، أصبح أيضًا مديراً موسيقياً لدار أوبرا فيينا. بالإضافة إلى ذلك، كان واحدًا من بين عدد قليل من قادة الأوركسترا الذين قادوا بانتظام فرقتي الأوركسترا الرائدتين على مستوى العالم، أوركسترا برلين الفيلهارمونية وأوركسترا فيينا الفيلهارمونية. لقد كانت مسيرة أوزاوا المهنية مذهلة حقًا، حيث حقق إنجازات ونجاحات لم يحققها سوى عدد قليل من اليابانيين الآخرين في مجال الثقافة الموسيقية الغربية. في الواقع لم يتمكن أي قائد أوركسترا ياباني آخر من تحقيق ما يقترب حتى من نجاحات أوزاوا.

ميلاد قائد أوركسترا عالمي لعائلة من المزارعين الفقراء

وُلد أوزاوا سييجي في الأول من سبتمبر/ أيلول عام 1935 في موكدين، منشوريا التي كانت تحتلها اليابان وتُعرف اليوم باسم مدينة شنيانغ في جمهورية الصين الشعبية. وتعود جذور عائلته إلى محافظة ياماناشي، حيث كانوا مزارعين فقراء، لكن بفضل عمله الشاق، نجح كايساكو والد أوزاوا، في أن يصبح طبيب أسنان وانطلق بعد ذلك إلى منشوريا حين كان سنه 23 عامًا، حيث افتتح عيادة في تشانغتشون، وهناك التقى واكاماتسو ساكورا والدة أوزاوا وتزوج منها. كان كايساكو من أشد المتحمسين للوحدة الآسيوية وعضواً مؤسساً في جمعية كونكورديا في مانشوكو، وقام لاحقًا بالانتقال مع عائلته إلى موكدين. أما سييجي، الابن الثالث للزوجين، فيدين بالجزء الأول من اسمه إلى جنرال في الجيش الإمبراطوري الياباني هو إيتاغاكي سيشيرو، الذي وجد كايساكو مصلحة معه، ويدين بالجزء الثاني من اسمه إلى ضابط رفيع المستوى في جيش كوانتونغ هو إيشيوارا كانجي، ولم تطأ قدما أوزاوا سييجي الأراضي اليابانية حتى بلغ السادسة من عمره.

لم تكن رحلة أوزاوا في عالم الموسيقى مماثلة لحياة النخب الموسيقية في اليابان. حيث كانت بداية تعرفه على الموسيقى عندما كان في الخامسة من عمره، حين أهدته والدته آلة الأكورديون كهدية في عيد الميلاد، ولم يبدأ دروس العزف على البيانو إلا عندما أصبح في العاشرة من عمره. عادت العائلة إلى اليابان في عام 1941 وكانت تعيش في تاتشيكاوا، وهي مدينة صغيرة تقع في الضاحية الغربية لطوكيو. لم يكن لديهم بيانو في المنزل، وعندما أعطاهم أقاربهم بيانو، استغرق الأمر من إخوته الأكبر ثلاثة أيام لنقله من يوكوهاما إلى تاتشيكاوا بواسطة عربة يد.

كان أوزاوا يحلم بأن يصبح عازف بيانو، لكن بدايته المتأخرة في تعلم البيانو حالت دون تحقيق ذلك. في ديسمبر/كانون الأول عام 1949، صادف أن حضر حفلًا موسيقيًا في قاعة هيبيا كوكايدو بطوكيو، شارك فيه ليونيد كروتزر وهو يقود الأوركسترا السيمفونية اليابانية (اليوم أوركسترا NHK السيمفونية) ويعزف على البيانو، وقد كشفت هذه التجربة لأوزاوا عن مدى جاذبية قيادة الأوركسترا. في سن الخامسة عشرة، بدأ الدراسة على يد معلم الموسيقى وعازف التشيلو سايتو هيديو (1902-1974)، الذي تجمعه صلة قرابة بأمه من بعيد.

أحداث الحياة تدفع أوزاوا إلى قدره المحتوم

كثيراً ما يلعب القدر دوراً في حياة الناس، ولم يكن أوزاوا استثناءً، فقد قام سايتو برعاية العديد من قادة الأوركسترا وعازفي الآلات الوترية البارزين في معهد توهو غاكوئن للموسيقى، وعلى امتداد حياته، كان أوزاوا ينظر إليه باعتباره مرشدًا له.

ثمة شخص آخر التقى به أوزاوا في فصل قيادة الأوركسترا الموسيقية الذي يدرّسه سايتو وهو ياماموتو ناوزومي (1932-2002). كان ياماموتو قائدًا للأوركسترا ومؤلفًا موسيقيًا للموسيقى الرئيسية لسلسلة أفلام Otoko wa tsurai yo (من الصعب أن تكون رجلاً)، وقد تلقى أوزاوا دروسه الأولى في قيادة الأوركسترا على يد ياماموتو. في عام 1952، بدأ أوزاوا الدراسة في معهد توهو غاكوئن للموسيقى الذي كان لسايتو دور فعال في تأسيسه. واستمر في تحصيل العلم حتى وصل إلى المرحلة الإعدادية في عام 1955، لكنه بدأ يشعر بالحاجة إلى الدراسة في أوروبا لاستكمال تعليمه الموسيقي، وقد شجعه ياماموتو قائلاً: ”الموسيقى مثل الهرم. سأواصل العمل على توسيع قاعدتها، لذلك اذهب إلى أوروبا وليكن هدفك الوصول للقمة“.

وبالفعل ذهب أوزاوا البالغ من العمر 23 عامًا إلى فرنسا في فبراير/ شباط 1959، على متن سفينة شحن، وشارك في مسابقة بيزانسون الدولية لقادة الأوركسترا الشباب في نفس العام. في الواقع، فاته الموعد النهائي للمشاركة، ولكن بفضل المساعي الحميدة لأحد موظفي السفارة الأمريكية، تمكن من دخول المنافسة وحصل على الجائزة الكبرى. وكانت هذه هي الخطوة الأولى في مسيرته الملهمة.

بعد ذلك، أوصى تشارلز مونك، أحد حكام المسابقة، أوزاوا بحضور مهرجان تانجلوود الموسيقي الذي تنظمه أوركسترا بوسطن السيمفونية كل صيف، وقد كان وشارك أوزاوا في عام 1960. أما في عام 1961، فقد تم تعيينه مساعدًا لقائد أوركسترا نيويورك الفيلهارمونية تحت قيادة ليونارد بيرنشتاين. كما حصل أيضًا على فرصة للدراسة تحت إشراف هيربرت فون كارايان من أوركسترا برلين الفيلهارمونية. وهكذا كان أوزاوا محظوظًا بالتدرب تحت قيادة أعظم قائدي الأوركسترا في النصف الأخير من القرن العشرين، وهو امتياز لم يحظى به أي قائد أوركسترا شاب آخر على الإطلاق.

أوزاوا سييجي مع هيربرت فون كارايان، المدير الموسيقي لأوركسترا برلين الفيلهارمونية، في عام 1982. (© فوجي فوتو/ أفلو)
أوزاوا سييجي مع هيربرت فون كارايان، المدير الموسيقي لأوركسترا برلين الفيلهارمونية، في عام 1982. (© فوجي فوتو/ أفلو)

الأقدمية تأتي قبل الموهبة في عالم الفن!

لم يكن أوزاوا عبقريًا بالفطرة قط، بل كان نجاحه ثمرة العمل الجاد والدراسة المستمرة. أولئك الذين يعرفونه يقولون إنه ودود، ويحب الناس، ويهتم كثيراً بالواجبات الاجتماعية. فإلى جانب تفانيه في العمل، جلبت هذه الصفات لأوزاوا العديد من اللقاءات السعيدة.

لكن الأمور لم تسر على ما يرام بالنسبة له في اليابان، حيث تم تعيينه قائداً لأوركسترا NHK السيمفوني في عام 1962 لمدة ستة أشهر، لكن نظراً لصغر سنه إذ كان يبلغ من العمر 27 عامًا آنذاك، فقد قاطعه بعض موسيقيي الأوركسترا، الذين ربما انزعجوا من فكرة العزف تحت قيادة شاب، وأعلنوا أن أوزاوا كان متهوراً ويفتقر إلى التواضع رافضين العزف تحت قيادته. في احتجاج مضاد، قامت عدة شخصيات بارزة في المسرح والأدب والموسيقى – من بينهم أساري كيتا، إيشيهارا شنتارو، ياسوشي إينوي، كنزابورو أوي، تورو تاكيميتسو، شونتارو تانيكاوا، يوكيو ميشيما – بتنظيم حدث موسيقي لسماع أداء أوزاوا، مما يعكس قوة جذب أوزاوا، ولكن بعد تجربته غير السارة مع أوركسترا NHK السيمفوني، تخلى في النهاية عن حلم الأداء في اليابان ووضع نصب عينيه المسرح العالمي.

في عام 1972، بينما كان أوزاوا يشغل منصب القائد الرئيسي لأوركسترا اليابان الفيلهارمونية، أعلنت مجموعة فوجي سانكي، الشركة الراعية للأوركسترا، أنها ستسحب دعمها. وبعد عودته على عجل من الولايات المتحدة إلى اليابان، بذل أوزاوا جهداً مضنياً لضمان بقاء الأوركسترا، حتى أنه توجه مباشرة إلى الإمبراطور الياباني للحصول على الدعم. في ذلك العام، حصل على جائزة أكاديمية الفنون اليابانية وفي حفل توزيع الجوائز قال: لقد حصلت على هذه الجائزة، لكن الأوركسترا التي أعمل معها في حالة يرثى لها”. في النهاية، تم حل الأوركسترا، التي تم تنظيمها كمؤسسة (واصلت أنشطتها كمجموعة منظمة ذاتيًا وتم إصلاحها لاحقًا كمؤسسة)، وشكّل أوزاوا مع ياماموتو ناوزومي أوركسترا اليابان الجديدة. ولعقود من الزمن بعد ذلك، قاد أوزاوا هذه الأوركسترا حصريًا عندما كان في اليابان. وقد ظهر ياماموتو على شاشة التلفزيون، كقائد لأوركسترا اليابان الجديدة التي قادها أوزاوا عدة مرات.

الانطلاق نحو العالمية

في العام التالي، بدأ أوزاوا في وضع بصمته على المسرح العالمي، ففي عام 1963، حقق نجاحًا كبيرًا في مهرجان رافينيا، الذي نظمته أوركسترا شيكاغو السيمفونية، رغم أنه تمت الاستعانة به كبديل في اللحظة الأخيرة، واستمر في العمل كمدير موسيقى لهذا المهرجان من عام 1964 إلى عام 1968. كما أصبح مدير الموسيقى لأوركسترا تورونتو السيمفوني في عام 1965، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1969. في عام 1966، قاد الأوركسترا في مهرجان سالزبورغ وفي العروض المنتظمة لأوركسترا فيينا الفيلهارمونية وأوركسترا برلين الفيلهارمونية. كما عمل كمدير فني لمهرجان تانجلوود من عام 1970 إلى عام 2002 وكمدير موسيقي لفرقة سان فرانسيسكو السيمفونية من عام 1970 إلى عام 1976. وفي عام 1973، بدأ مهمة غير مسبوقة دامت حوالي 30 عامًا شغل خلالها منصب المدير الموسيقي لأوركسترا بوسطن السيمفونية، التي ترأّسها حتى 2002.

لقد شهد عام 1979 ظهوره لأول مرة في أوبرا باريس، ثم في مسرح لا سكالا بميلانو عام 1980، وفي دار الأوبرا في فيينا عام 1988، محققًا نجاحًا على أعلى مستوى في عالم الأوبرا أيضًا. وفي عام 2002 أصبح مديرًا موسيقيًا لـ دار الأوبرا في فيينا، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 2010. كما حققت تسجيلاته للموسيقى الكلاسيكية أيضًا نجاحًا مذهلاً، حيث باع الـ CD الخاص بحفلته الموسيقية للعام الجديد 2002 مع أوركسترا فيينا الفيلهارمونية 800 ألف نسخة في اليابان ومليون نسخة في جميع أنحاء العالم. وفي عام 1994 تم تسمية قاعة الأداء المبنية في تانجلوود باسمه.

بعد الفترة الصعبة الأولى التي عاشها، استأنف أوزاوا نشاطه الموسيقي في اليابان، وفي عام 1987، أسس أوركسترا سايتو كينين، المكونة من طلاب سابقين تتلمذوا على يد معلم أوزاوا، وساعدها على التطور لتصبح أوركسترا عالمية. في عام 1990، أصبح أوزاوا مستشارًا فنيًا لـ أوركسترا Mito Chamber والمدير العام لمهرجان سايتو كينين ماتسوموتو في عام 1992 (تم تغيير اسمه إلى مهرجان سييجي أوزاوا ماتسوموتو في عام 1994). وفي عهده، أصبحت عروض المهرجان محل إعجاب محبي الموسيقى في كل مكان. كما قاد أوزاوا أيضاً جوقة عالمية، في عرض حي متزامن في خمس قارات، لأغنية ”قصيدة الفرح“ من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في ناغانو عام 1998. وفي عام 2000، أسس أكاديمية سييجي أوزاوا للموسيقى من أجل رعاية الموسيقيين الشباب.

قائد بالفطرة يتمتع بالكاريزما

إن قادة الأوركسترا، الذين لا يعزفون على أي آلة موسيقية أثناء قيادة الأوركسترا، هم فئة غريبة من الموسيقيين، يقودون ”عائلة“ مكونة من 100 عازف أو نحو ذلك يعزفون على مختلف الآلات الموسيقية. ويتلخص دور قائد الأوركسترا في إيصال نواياه فيما يتعلق بالكيفية التي ينبغي أن تكون بها الموسيقى وتشكيل المقطوعة وفقًا لرؤيته. وهذا لا يتطلب المعرفة والتقنية فحسب، بل يتطلب أيضًا الديناميكية الشخصية والكاريزما. ولقد كان أوزاوا يتمتع بمهارة تحريك العصا بطريقة لا تشوبها شائبة بفضل سايتو هيديو، الذي نظم أساليب قيادة الأوركسترا في اليابان، لكن قوته الحقيقية تكمن في هالته الشخصية، التي تطورت عبر أعوام من الجهد والخبرة.

هناك حدث كاشف يشير إلى الكاريزما التي يتمتع بها أوزاوا. في عام 2015، قام أوزاوا بزيارة ياماغوتشي كويتشي، عازف الطبل في أوركسترا اليابان الجديدة، الذي كان يحتضر حينها. وقام أفراد الأسرة الذين كانوا بجانب سرير ياماغوتشي، الذي كان بالكاد واعيًا، بتشجيعه على الضغط على أيديهم لإظهار أنه يدرك وجودهم، إلا أنه استجاب بضغطة واهنة بالكاد يمكن إدراكها. ولكن عندما خاطبه أوزاوا، فتح ياماغوتشي عينيه، بل وتمكن أيضاً من إجراء محادثة قصيرة.

لقد كان الاستماع إلى أوزاوا وهو يقود أوركسترا بوسطن السيمفوني مؤدياً سيمفونية ماهلر رقم 3 في الثالث عشر من فبراير/شباط 1986 في طوكيو تجربة رائعة ـ كان أداؤه أندر ”هدية“ تلقيتها على الإطلاق. موسيقى أوزاوا عاطفية، وأنا أعلم أن كثيرين غيري قد أُعجبوا به على مر السنين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.