د.صباح الدبي: جوهر الأدب يتنافى مع النزعة المُتعالية والشوفانية

5 يناير 2024

حاورها: هاني نديم

في المغرب، يجري الشعر في الناس مجرى الينابيع في جبالها، شعر صاف ونص مختلف يجمع بين مشاعر الشرق وفلسفات الغرب، وتبرز على خريطة الشعر المغربي اليوم أسماء كثيرة ساهمت في صناعة مجده، لا شك أن الشاعرة صباح الدبي من هؤلاء.

التقينا في بغداد في مربد قديم، وسمعت شعرها الخاص ولغتها الراسخة، والتقينا سريعاً هنا في هذا الحوار الذي تأجل كثيراً بسبب ما يحصل في غزة. 

سألتها:

  • كيف كانت بداياتك، متى قلت أريد أن أصبح شاعرة أو كيف حدث الأمر.. حدثيني عن البدايات والمسيرة

– لا شك أن الحديث عن البدايات يُعيدنا إلى منابع الدهشة، وإلى الشَّغف الجميل، وفتنة السؤال وركوب المُغامَرة، كل ما يدعوك إلى اكتشاف الذات والآخرين والعالم، من أجل ذلك كان البحث عن منفذ للإنصات إلى حديث الدَّاخل ضرورة روحية، وحاجة مُلحَّة ومُبهمَة، المهم أن تمنحك أبجديتك الأولية ما يسعفك في التعبير، وما ترسم به أحلامك الصغيرة، وما تنشد به حكاياتك الصامتة، كان الأمر أشبه بتحليق على علو قريب، تشعر من خلاله أن لك أجنحة لا يمتلكها الآخرون حتى ولو امتلكوا نفس العدَّة اللغوية التي لديك، أقول هذا والأمر لم يكن يتعدَّى محاولات أولية لكنها رغم ذلك تكشف لك أن لغتك البسيطة التي بين يديك تتحول على يديك، وتُشعرك بفرح غامر حين تستوي في سمتِها الجديد.

ما زلت أذكر الأثر السَّاحر لكلمات الثناء التي كان يغدقها علي أستاذ اللغة العربية في الأقسام الأولى الإعدادية، وما زلت أنتشي بتصفيق الطلاب بعد فراغي من قراءة ما كتبت، أنا المفتونة بحكايات جدتي الليلية وبعوالمها التي جعلتني دائمة التَّطلع إلى السَّماء حيث تتلألأ العجائب والعوالم المُدهشة، فكانت بعد ذلك خربشاتي على الورق خلقاً جديدا لعوالمي التي تبدو لي رغم بساطتها مُدهشة، واستمر الأمر هكذا كلَّما راودتني الرغبة  في رسم لوحاتي الداخلية وما يعتريني من أحوال وأهوال، ولا شكَّ أن دوام الارتباط باللغة وبالقراءة  يثري هذه الرغبة لتجد النصوص الأولى طريقها  للنشر والمشاركة في المسابقات الشعرية.

أما متى قلت أريد أن أصبح شاعرة، وكيف حدث الأمر، فلكأنه زمن مُنسرِب لا تشعر به تماماً مثلما يمر العمر، ولكأنها حالة مُدهشة تُمارس جذبها الآسر تماما كما يحدث الحب، إلى أن تجد نفسك متورِّطاً في عالم مبهج وغامض ومحفوف بكل المشاعر المتناقضة، هل ما أخطُّ  يستحق أن يكون شعرا، وهل ما أغرف من نبعي الداخلي سيُفضي بي إلى فتنة الشعر، ولماذا كلما فرغت مما كتبت أبحث عن غيره كأنني لم أقل بعدُ حديث روحي الشاعر، ويظل هذا البحث عن الشاعرة منذوراً للسؤال في كل ولادة شعرية مستقبلية، وما أستطيع قوله هو أن ثناء أساتذتي على كتاباتي، ومشاركتي معهم في أماسٍ شعرية بالجامعة، وحصولي على جوائز في المغرب وخارجه، حفَّزني  وزاد من تعلُّقي بالشعر، ثم إن الحاجة الروحية المُلحَّة للكتابة هي الدافع الأساس للاحتماء بهذا العالم الجميل الذي يحتضن أفراحنا وأحزاننا وكلَّ ما يعتمل في دواخلنا الهشَّة ونحن نعبر الحياة، ثم كانت المسيرة ومازالت متواصلة في البحث عن القصيدة التي لم تُقَل بعد، وكان حضوري في المحافل الشعرية المغربية والعربية فرصة لإسماع صوتي وللإنصات لأصوات شعرية خلاَّقة من مختلف المشارب والحساسيات في وطننا العربي.

 

  • أطالع معكم الشعر المغربي، وأتساءل عن رأيك بالمشهد الشعري المغربي اليوم، كيف ترينه وخاصة جيل الشباب؟

– المشهد الشعري المغربي اليوم مُتعدَّد ومتنوع، وهو نتيجة لمسار تاريخي حافل أسسه جيل الرواد، هؤلاء فتحوا من خلال إبداعاتهم منافذ جديدة للقول الشعري انخرطت فيها الأجيال اللاحقة، وحققت تراكما كميا ونوعيا يؤسس لرؤى مغايِرة، ولتجليات شعرية متنوعة كشفت عن تعدد الحساسيات، وتنوع وطرائق القول، واختلاف الأشكال، إذ تجد القصيدة العمودية إلى جانب التفعيلية وقصيدة النثر، وهذا التنوع مردُّه إلى انفتاح التجربة الشعرية المغربية على تجارب شعرية عربية وعالمية لاسيما بحكم القرب الجغرافي والثقافي من دول الجوار بأوروبا، أما جيل الشباب، فقد أبان عن علو كعب لافت في مجال القول الشعري، وانخرط في التجديد من داخل القصيدة العمودية، وربما كان للمسابقات الشعرية العربية دور في توجيه الاهتمام إلى هذا الشكل الشعري، هذا فضلا عن وجود تجارب أجرب تعلن عن صوتها من خلال الأشكال الأخرى. المهم هو البحث عن جوهر الشعر بغض النظر عن طرائق قوله، لذلك يرسم جيل الشباب طريقه بروية واشتغال يُنبئ بمستقبل زاهر.

الرهان على الثقافة العربية في تعددها وشموليتها ووحدتها الجوهرية

  • في محاولة لفهم مصطلح “مشارقي” ثقافياً، هل هنالك دلالة مضمرة إلى أنه متعالٍ وشوفاني ولا يبالي إلا بنفسه؟ حدثيني عن الهوة الثقافية بين الشرق العربي وغربه إن وجدت وكيف نردمها؟

– لا شكَّ أن المسألة اتخذت في مرحلة تاريخية سابقة منحى يتجه في مسار تعميق الهوة بين المشرق والمغرب، وتحولت المقاربة إلى مُعترَك للاتهام والدفاع بشكل تحولت معه القضية المُصطلحية إلى متنٍ رئيس على حساب ما يستدعيه البحث الجِدِّي في الأدب وفي طبيعة العلاقات المفترضة بين الشعوب والأقطار وهي تؤسس لحتمية التلاقح الثقافي والانفتاح المعرفي والإبداعي الذي هو أساس كل حوار ثقافي بنَّاء، لذلك كان الحديث عن الصوت والصَّدى في المسألة الثقافية بين المشرق والمغرب هدراً للجهد الذي كان من المُفترض أن يُمنح للمادة الأدبية وللإنصات لوجودها المُختلف، تماما كما كان الردَ والدفاع هدرا للجهد الذي كان من المُفتَرض أن يُمنح للقول وللاشتغال النوعي، إن جوهر الأدب يتنافى مع النزعة المُتعالية والغرور المُركَّب، والشوفانية الضيِّقة، وما يثريه هو القبول بالآخر المُختلف، والبحث عن الخصوصية التي نتكامل من خلالها، والإنصات إلى الأصوات المتعدِّدة دون أحكام جاهزة أو مُسبَقة، لقد سئمنا المهاوِي، وصرنا في أمسِّ الحاجة إلى جسور نلتقِي عبرها ونعلن في فخرعن واحديتنا المُشرِقة من داخل التعدُّد والاختلاف، ونمحو كلُّ أشكال العزلة والشَّتات والفوقية العقيمة التي  تضيِّق الأفق الثقافي وتُكدِّر سماءه المنذورة  للاتساع والتجدُّد المستمرين، لأن الرهان على الثقافة العربية في تعددها وشموليتها ووحدتها الجوهرية، والفِكاك من الخنادق الضيِّقة التي تُسوِّرها هو المنفذ المُضيء لبناء هوية الأمة وحفظها من كل تشرذم وتجزيء.

 

  • عن صباح خارج الكتابة، عما يفرحها وما يحزنها، عن الأصدقاء والبلاد والسفر والموسيقا.. حدثيني عنك في هذه الفسحة التي أحاول من خلالها التعارف الإنساني مع الإبداعي..

لا أتقن الحديث عن نفسي، لكنك كبست على زرِّ القول، لذلك سأخبرك وأنا  أبتسم أني أولد كل يوم من صباحاتي، أبحث عنِّي في عيون البسطاء، في أفراحهم الصغيرة التي لا تحتاج إلى كثير عناء، في ضحكات أمِي وطفولة روحها التي امتدت إلى روحي، يُجدِّدني صوتُها المُوقن بطلوع الصباح بعد كل ظلمة رغم أنف الزمن، تمنحني الأعالي والاخضرار الممتد فيها، وانهمار الماء من شلالاتها فتنة لا تُوصف، تجذبني رائحة الخبز البلدي والسمن البلدي في القرى الهادئة التي تسكب صفاء الناس وطيبتهم وعفويتهم المُلهِمة، وتُشرق روحِي حين أكون سببا في فرح الآخرين، يُحزنني الخذلان حين يكسر آنية الروح، ويُريق دمعها المرّ في مهاوي الصَّمت، ومثل طفلة لا تُدرك الوجه المُعتِم للعالم تُبكِينِي الكلمات حين ترتدُّ إلى العالم السُّفلي بعد أن كانت سماء بلَّورية، يرقُّ قلبي لمآسي الناس وأنين البلاد، وحسرة الأوطان، أما الأصدقاء  فمرايا الروح وشوقها لأليفها، يكفيني القليل الأقرب لأني لا أجيد الحياة على حذر، وأمنح نفسي للإقامة المُدهشة في المكان كلما حملني السفر على جناحيه الأبيضين، أكتشف الناس والطقوس وأسرار المدن والطرقات والمطارات، وأسمع في كل مرَّة نبضها الذي لا يتكرر، إنها الحياة الأخرى المُضَاعفة التي نعيش من خلالها  فتنة العبور.

أصبُّ لفيروز كأس الشاي المُنعنع في الصباح، ويحملني صوتُها الآسر إلى فراديس الكلام وأنهار اللحن الرقراقة، تطربني علية التونسية وغادة شبير وبشار زرقان وأميمة الخليل ومحمد الحياني وعبد الهادي بلخياط، وفدوى المالكي ويُعيدني ناظم الغزالي إلى جلسات والدي رحمه الله، ويُثمِلني الشجن حين يسكبه ياس خضر، أحب سيلين ديون وداليدا وإلتون جون و أنريكو ماسياس، تلك العذوبة الممزوجة بالشجن، وحين يدعوني المزاج للفرح والرقص، يرتفع صوت الأغاني المغربية الشعبية المغزول بالزغاريد في الغرفة والمطبخ والسيارة ويترك أثره السَّاحر بوجود الأهل واللمَة الطيِّبة.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.