بين حرية الصحافة وزنزانة الأخلاق والمجتمع

مر ّيوم أمس اليوم العالمي لحرية الصحافة. وهو يوم يحتفي فيه كل من يمشي في أروقة السلطة الرابعة، ويحتفي كلُ بطريقته ومخاتلاته على مساحة الحرية التي يستطيع التحرك فيها.

إن الدلالات العاطفية للحرية تمنحها مناخاً هائلاً من الحماس والتدافع، ولكن ما هي الحرية حقاً وكيف يمكننا أن نؤطرها؟ هل إفشاء أسرار الدولة حرية؟ هل تسريب الأفلام الإباحية للأطفال حرية؟ إن المقارنة بين أخلاقيات الصحافة وحريتها أمرً مشروع ولكنه زلق وخطير، لا يمكننا أن نعبر بالمطلق ولا أن نصف أنفسنا بالأخلاقيين على طول الخط. إذ أن كل حادثة تلدُ مجرياتها وضوابطها.

ولعل في قول أوليفر هولمز ما يشير إلى أول ملامح التعبير المشروع إذ قال: “حرية التعبير لا تشمل أن يصيح أحدهم كاذباً في مسرح مكتظ: حريق.. حريق”!، هذه الحرية ستسبب بالتدافع والحوادث والخطر، في الصحافة كل يوم يصيح أحدهم حريق حريق، وذلك ليواري سوءة حريق آخر!

لا بد لي من ذكر تلك الجملة العبقرية التي نطقها القاضي الأمريكي هولمز 1919 في حكمه على قضية طباعة وتوزيع 15000 نشرة مناهضة للحرب جاء في متنها: “الحرب خطأٌ فادحٌ ضد الإنسانية لمصلحة قلَّة مختارة في وول ستريت”! هذه العبارة دقيقة جداً، لكنه في آخر الأمر منع حرية التعبير أو على الأقل أطّرها، فقد ارتأى وهو موظف في الحكومة أن كل تعبير يضعف أركان الدولة أو يقوّض جهود الحرب -وقد قامت- فهو خطر محدق!

يروي نايجل ووربيرتن صاحب كتاب مقدمة في الحرية: “إن الفيلسوف توماس سكانلون طرح طرحاً تخيلياً جاء فيه: ماذا تقول في مخترع كاره للبشر اكتشف طريقة سهلة لإعداد غاز أعصاب ذي فعالية عالية من منتجات محلية يسهل العثور عليها؟ بالتأكيد في هذا الموقف سيكون من الصائب منعه من إعطاء الوصفة لأحد أو نشرها بأي طريقة أخرى، قليل جداً سيتولى الدفاع عن حقّه في حرية الكلام فيما يتعلق باختراعه المميت هذا.

ما طرحه سكانلون هو طرح غير موجود، ولكن عام 1983 وقعت حادثة حقيقية في أمريكا عام  تشبه ما جاء في طرحه، وذلك عندما نشر كتاب: “القاتل المأجور: دليلٌ فني للقتلة المأجورين المستقلين”، يقول ووربيرتن: لقد شرح هذا الكتاب طرائق القتل بحذر والتخلص من الجثث، وزادت شهرة الكتاب عندما استأجر لورنس هورن قاتلاً مأجوراً لقتل ابنه وزوجته السابقة وممرضة ابنه من أجل الحصول على أموال التأمين، وقد اتبع القاتل حرفيّاً التعليمات الواردة في الكتاب عن كيفية جعل المسدس صعب التعقب، واستخدام كاتم صوت منزلي الصنع، وإطلاق النار من مسافة قريبة، وما إلى ذلك. حُكم على القاتل بالإعدام، وعلى هورن بالسجن مدى الحياة، ورُفعت دعوى قضائية ضد ناشري الكتاب.

هل هنالك حريات مطلقة؟ لا أظن. هل يوجد دولة على الكوكب ليس لديها تأطيرات لحرية التعبير؟ بالطبع لا. هل تعلم أن أمريكا مثلاً منعت هذه الروايات في أول طبعاتها؟

  • وداعا للسلاح لأرنست همنغواي لأنها كاشفت العالم لأول مرة عن وحشية الحرب العالمية الأولى
  • مدار السرطان لهنري ميللر بوصفها عمل جنسي بحت
  • 1984 لجورج أورويل لأنها تضمنت بيان الشيوعية في سياق حبكتها
  • يوليسس لجيمس جويس لأنها تحثّ على الرذائل حسب قول الرقيب
  • عن الفئران والرجال لشتاينبك لأنه كتب حوارات الفلاحين بلغة فاحشة
  • لقتل الطائر المحكي التي تتناول قضايا الاغتصاب والمساواة العرقية
  • الحارس في حقل الشوفان لسالينجر لأنها تؤسس لكتابة غاضبة

بل وحتى هاري بوتر منعت في بدايتها بوصفها معادية للأسرة أما عداء الطائرة الورقية فمنعت بحجة أنها تروج للإسلام!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.