ابراهيم ياسين: الحياة دون فيروز أقل جدارة من أن تعاش

31 ديسمبر 2023

حاوره: هاني نديم

منذ أكثر من عشرين عاماً، التقينا في بغداد التي كانت تستعد للحرب، وكان هذا واضحاً على حركة شوارعها وأصوات باعتها الجوالين. كنا في المربد العظيم مع شعراء كبار من أساتذتنا الذين لم نقابلهم إلا على صفحات الصحف والكتب المدرسية. كان ابراهيم ياسين هناك من الوفد السوري يمثل بلاده خير تمثيل، سمتاً وشعراً وأخلاقاً.. رسخ في ذاكرتي إنساناً بعدما كان راسخاً شعراً.. 

والآن ألتقيه في هذه الدردشة نسترجع معاً كل تلك السنوات وكل هذا العمر، سألته:

  •  ثلاثون عاماً وأكثر من الشعر.. هل استحق الأمر كل هذا التعب؟ كيف ترى الشعر اليوم ومسيرتك التي قضيتها على هذا الدرب؟

– سيكون من الصعب القول إن كانت رحلتي الشاقة، والجميلة أيضا، مع الكلمة الشاعرة، والتي تمتد على زمن لم يعد قريبا، تستحق كل هذا التعب وكل هذا الإرهاق، أم لا .. وعلى الأخص أنها لم تكن مفروشة بالورود والرياحين دائما، وقلما كانت تخلو من مكابدات وتحديات أيضا، على أنني لاأنكر أنها كانت تحظى بالترحاب الكبير وبالحفاوة البالغة في ذات الوقت، وعلى الصعيدين الأدبي والإعلامي، كما أنني لاأخفي فرحي بكل مولود جديد يصدر لي، وآخر هذه الإصدارات مجموعتي الشعرية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بعنوان (خضراء كالبحر ). ومن البداهة القول إنني لاأستطيع مجانبة هذه التجربة، دون الانحياز إليها قليلا أو كثيرا، ولن أدخل هنا في مهمة التقويم والنقد، وإصدار الأحكام حول المشهد الشعري السائد، وإن كنت – كقارئ – لاأشعر بالارتياح ولا بالطمأنينة للكثير مما يكتب وينشر هذه الأيام على أنه (شعر)  وفي غياب النقد الحقيقي المواكب للتجارب الشعرية والإبداعية المطروحة على الساحة الثقافية بوجه عام – تخلفه على الأقل – يبقى الأمر متروك للقارئ الجيد والنابه من جهة وللزمن من جهة أخرى، لأن الزمن في نهاية المطاف هو الناقد الأكثر حقيقية والأكثر موضوعية أيضا.

 

تحوّل الفضاء إلى وكالة بلا بوّاب يؤمها القاصي والداني

  • عن المشهد الشعري الجديد بعد السوشال ميديا وطوفان اللغة والنصوص.. لماذا تغضب مرات طالما أن الفرز مرهون بالجودة.. لعلي مخطئ.. كيف ترى الأمر؟

– لا أحد ينكر أن ( السوشل ميديا ) استطاعت أن تفتح لنا آفاقا على ثقافات وتجارب أدبية وإبداعية جديرة بالوقوف عليها والتفاعل معها حقيقة لا قولا. وأن تضيء لنا عوالم لم يكن بميسورنا التعرف إليها لولا السوشل ميديا بمثل هذه السهولة واليسر، بعد أن كسرت ثورة الاتصالات إقطاعية النشر وألغت الوصاية على كل مايكتب أو ينشر. على أنها في ذات الوقت – وهنا مكمن الخطورة – أعطت حق الكلام، كما يقول المفكر الإيطالي ألبرتو أيكو، لجحافل من الأغبياء والحمقى، وأصبح بمقدور أي معتوه أو أبله أن يتكلم مثله مثل أي أديب أو عالم حاصل على جائزة نوبل، ومعها تحول هذا الفضاء إلى ” وكالة بلا بواب ” يؤمها القاصي والداني، الأصيل والدخيل، الجوهري والزائف، الأديب المبدع والشاعر الأجوف .. حتى أصبح البحث عن إبرة في كومة من القش أيسر من العثور على تجربة أدبية أو إبداعية جادة وأصيلة ، فكانت النتيجة كما يقول الكاتب والمفكر الكندي آلن دونو أن ” تسيدت شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية”.وهم متهمون على حد قوله “بصناعة قواعد الرداءة والسلوك المبتذل الذي ينبغي أن نحتذي حذوه”.

 

 

  • سوريا بعد كل تلك الأيام السوداء ما زالت تصدر لنا الشعر والشعراء.. كيف تقرأ ملامح الشعر السوري الجديد وما رأيك به؟

– أعتقد أن ملامح الشعر السوري الجديد في الوقت الراهن لم تتضح بشكلها النهائي ولم تتبلور بعد .. وأعتقد أيضا أنه لابد وأن يمر زمن طويل حتى تكتمل صورة المشهد الشعري الذي خلفته الحرب بكل بشاعتها وهول مآسيها والتي مازالت تلقي بظلالها السوداء والقاتمة على كثير من النتاجات الشعرية إلى اليوم. وما نطالعه هنا أو هناك من نتاجات أدبية خلفتها الحرب بوجه عام، يقدم لنا دلالة بائنة إلى أن الصورة ماتزال ناقصة، ونحن مازلنا بحاجة ماسة إلى نصوص إبداعية ترتقي لمستوى الأهوال والكوارث التي عاشتها البلاد دون أن تسقط في مطب الفوتوغرافية الساذجة أو الواقعية الفجة والمباشرة.

إذاً ..تبقى المسألة هنا مرهونة بمسقبل الأيام وربما الأعوام اللاحقة ، وبما قد تحمله لنا من أعمال أدبية وشعرية بوجه عام يصعب التكهن بما قد تنطوي عليه من قيم فنية أو إبداعية ، وعلى الأخص أنها مرهونة بالاحتمالات ومفتوحة على الاتجاهات كافة.

قلما أطمئن للوسط الثقافي، بل إنني أبدي نفوراً واضحاً من أوساط المثقفين

  • حدثني عنكم خارج الكتابة، عن آمالك ومباهجك وأحزانك، عن الغناء الأقرب إليك والكتب التي إلى جوار سريرك .

– لا يوجد في حياتي، خارج الكتابة، ما هو خارج عن الشائع او المألوف في حيوات الناس الآخرين، سوى أنني أمْيَل ماأكون إلى الانعزالية والتفرد، ثمة أصدقاء أقل من أصابع اليد الواحدة ألتقي بهم بين وقت وآخر.

والجدير ذكره أنني قلما أطمئن للوسط الثقافي المحيط بي بوجه عام  لابل أنني كثيرا ماأبدي نفورا واضحا من أوساط المثقفين بوجه عام ولأسباب لامجال لذكرها الآن. لا أعلق آمالا كبيرة على شيء مما يحيط بي، وسعادتي لاتكتمل إلا بسعادة من أحب حتى ولو لم أكن جزءا من تلك السعادة.

يحزنني ما انتهت إليه البلاد والعباد من أوضاع كارثية. أقرأ وبشغف كبير ماركيز الذي يأسرني بواقعيته السحرية، مثلما يأسرني كازنتزاكي في “الإغواء الأخير للمسيح” و”زوربا اليوناني” و”تقرير إلى غريكو” ومثلهما الإسباني أنطون غالا صاحب “المخطوط القرمزي” و”هوى تركي”، دون أن أنسى “حرافيش” نجيب محفوظ و”شُطّار” محمد شكري..

والجدير ذكره إن فن الرواية بوجه عام هو مايشدني للقراءة . لاأقرأ من الأشعار ما لم يلمس روحي ويكون لصيقا بالقلب تماما، وقلة قليلة من الشعراء الذين لا مجال لذكر أسمائهم هنا هم من يضيئون روحي بإشراقاتهم أرواحهم الباهرة. الأمر ذاته يمكن قوله فيما أستمع إليه من غناء، وأظن أن الحياة لولا هطولات الفرح المنسكب مع أغنيات السيدة فيروز لكانت أقل جدارة من أن تعاش فعلا .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.