عبدالقادر الحصني: اتهمت نازك الملائكة بالردة عن حداثة القصيدة

26 مايو 2023
سامح محجوب – القاهرة

ما الملابسات الفنية والتاريخية التي صاحبت التوجه الشعري الجديد فى نهاية الأربعينيات على يد نازك الملائكة ورفاقها من الشعر العرب ؟! وكيف ترى اتهام نازك الملائكة بالعودة عن آرائها فى كثير مما ذهبت إليه من رؤى حول التجديد ؟!
فأجاب الحصني الذي يقيم فى القاهرة منذ عشرة أعوام تقريبًا:

 

كلمة عبد القادر الحصني في بيت الشعر

نازك الملائكة وهمُّ الخروج من البيت

في الوقت الذي كانت تثار فيه أسئلة كثيرة حول ريادة الشعر الحرّ كان يشغلني سؤالٌ حول خصوص ما قدّمه كلُّ رائد من روّاده، وحول أهمّيّة هذا الخصوص. هذه الكلمة التي أقدّمها بين يدي الاحتفال بمرور مئة عامٍ على ولادة الرائدة نازك الملائكة تدّعي أنّها تضع إصبعها على ما تحسبه الخصوص الأهمَّ في هذه الريادة. أوطّئ لذلك، فأقول:
من طبيعة الفنِّ أن يسعى إلى مستقِرَّاتٍ فيه، وأن يُمكِّنَ لها لتصير معاييرَ في تقويمه وفي التمييز بين ألوانه، لاسيّما على مستوى الشكل وتبانيه. ومن طبيعته أيضاً السيولةُ والقلقُ وولعُ الاختلاف حدَّ التمرُّد والسعي إلى خلخلة هذه المستقرّات.
ولا يخرج الشعرُ عن أو على هذه الطبيعة التي تحاكي الحياةَ في جدلها المستمرّ المركوز على حوامله الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة. وقد عمل هذان السعيان معاً في الشعر العربيّ على امتداد عصوره.

فقد رسّخ الشعر عموده وفاق تبانٍ محدّد لمضامين القصيدة، ثمّ نقض هذا العمود بعد أن انتقده وسخر منه، وأحكم دوائر عَروضه، وقعّدَ لبحوره وأوزانه، ثمّ تململ داخلها، وذهب المحدَثون فيه إلى ما لم يكن من انشغالات المتقدّمين، إلى أن أفرزت الحقبةُ الأندلسيّة ألواناً جديدةً من أشكال بناء النصّ الشعريّ، ولا أرى في ما ذهب إليه المملوكيّ مثلاً من تشطير وتخميس وتدوير وتشجير… إلخ إلّا ضرباً من اللعب الذي أراد أن يُخرج المستقرَّ والرتيبَ من الشكل إلى غير معهوده.
مع مدرسة الإحياء، لا سيّما في مُنجَز أحمد شوقي، أخصُّ معارضاتِه، شهدت مسرودةُ قصة الشعر العربيّ فاصلةً مفادُها: هذا ما كان في مضاهاة مرموقةٍ له، فماذا بعد؟

في الإجابة عن هذا السؤال، على الرَّغم من إرهاصات كثيرة في محاولة الذهاب إلى هذا الـ “بعد”، يبدو أنّ منعطفه كان في انتظار تفاعل حوامله الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة على أرض الواقع التي تمخّضت عن أحداث كبرى في البلدان العربيّة عشيّةَ النصف الأوّل من القرن الماضي: التحرّر والاستقلال السياسي، ظهور النفط، قيام دولة إسرائيل، الانفتاح الثقافي على الغرب وتنامي المؤثِّرات الأجنبيّة في الشعر ونقده. فكان أنّ انبثقت تجربة الشعر الحرّ، وجرى التركيز في السبق على ريادتها على نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب… السبق الذي لا أراه كبير شأن في هذه الريادة: فغضون شهر أو أشهر حتّى بين مجموعتين شعريتين لا يحسم أمر ريادة، ثمّ لا بدَّ من النظر في كيف جرى فعلا اجتراحُ هذه الريادة في فنّيّة النصوص المبكِّرة، علماً أنّ السبق الزمنيّ الطفيف كان في مصلحة نازك الملائكة.

لن أذهب إلى فنيّة النصوص، فطالما ذُهب إلى ذلك. سأذهب إلى ما أراه هاجسَ رائدتنا الأعمقَ في هذه الريادة، لأقول: إنّ نازك الملائكة جمعت في ريادتها بين إبداع النصّ والتنظير له، فكانت أمام همٍّ كبير، لم يشاركها الروادُ الآخرون إلّا في قليلٍ منه، وألخِّصه بالآتي:
تعرف نازك الملائكة أنّ العربيّ بنى جملته اللغويّةَ على غرار خيمته، فكانت من عمادٍ مرفوعٍ، وفضلةٍ منصوبةٍ، وحبالٍ مجرورةٍ، تنتهي بأوتادٍ ساكنة.
وتعرفُ أيضاً أنّ بناء البيت الشعريّ الذي أسكن فيه جمله ومعانيه قد استمدّ المصطلحاتِ في علمِ أوزانه من مفردات بداوته في خيمته والبيت الذي لم يبتعد عنها إلا قليلاً ما بين وبره ومدَره، وهو مقيمٌ فيه منذ عصور…
تعرف كلَّ ذلك، وتعرف أنّها لا بدّ أن تخرج من هذا البيت وأن تغادره، لكنّ الريادة كانت تلقي عليها عبء السؤال: إلى أين؟
فالرائد يحملُ همّ المغادرة، ويحملُ همّ ما تؤول إليه، وهو همّ مصير المغادرة/ المغامرة. ثمَّ إنّ “الرائدَ لا يكذبُ أهلَه”.
نظرت في القصائد التي أفرزتها الدفقةُ الأولى لهذه المغادرة، فإذا هي ليست في طريق واحد، بل على سكتين متجاورتين:
الأولى عليها من القصائد ما وصفتها بالملتزمة بنسقٍ موحَّدٍ من التفعيلات والقافية في مقاطعها، والثانية عليها القصائد غير الملتزمة بنسقٍ. ولكلٍ من هذين الأنموذجين إشكاليته.
فالأوّلُ لا يخرج من البيت إلا قليلاً، ويشبه ما سبقه من إرهاصات، تبادرت منذ بداية القرن العشرين.
أمّا الثاني الذي لا يلتزم نسقاً ما فإنّه إذا تُرك على غاربه يؤول إلى عشوائيّة لا ضابط لها إلا تراكمُ تفعيلة ومزاجيّةُ تقفية.
.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.