د. ثائر ديب: الترجمة الحقّة تتجاوز مفهوم “الأكثر مبيعاً” الذي يروق لكسالى العقل والذائقة

21 أغسطس

حاوره: هاني نديم

ترك الطب ليترجم ويشتغل في الثقافة، هذا بالنسبة لي مدخل عظيم للولوج إلى استثنائية عوالم د.ثائر ديب، أحد أسمائنا الثقافية السورية والعربية اللامعة وهو يعمل بجهد ودأب لنقل المعارف وترجمة أهم الكتب الفكرية والتنويرية.

وبشكل شخصي، بدأت علاقتي مع د.ديب من كتاب “نظرية الأدب” الذي ترجمه عن تيري فرنسيس إيغلتون، حيث أفادني أيما إفادة في بداياتي وأعجبت بالكتاب وكأنه مكتوب بالعربية من أصله، وتابعت من يومها المنتج المعرفي لثائر ذيب الذي تكرّس اليوم عربياً كمترجم كبير ومفكر لامع وناشط ثقافي يساري، يحمل مطرقته مدافعاً عن الاشتراكية في كل ما يكتب. 

عن الأدب والترجمة والاشتراكية وما حولها سألته:

  • مع انفتاح الوسائط ومحركات الترجمة والعمل في نقل اللغات من كلّ من هب ودب، أين أصبحت الترجمة اليوم وأين كانت؟ هل استفدنا كقراء من وفرة المترجمات؟ كيف ترون الأمر؟

-أصبحت الترجمة اليوم، مع انفتاح الوسائط ومحركات الترجمة، أوفر كمّاً. ولديها إمكانات لم تُتَح لها من قبل لأن تكون أدقّ وأحسن نوعاً بما لا يُقاس. لكنّ ذلك كلّه أتاح الفرصة أيضاً لأن تقتحم عالم الترجمة جحافل من المتطفلين الذين يحسبون الترجمة مجرد معرفة لغوية وفتحاً للمعاجم أو حتى مجرد تلقيم لمواقع الترجمة بالنصوص الأصلية وإعطائها أوامر الترجمة.

تبقى الترجمة الحقّة، على الرغم من كلّ التطور التقني، أمراً يتعدّى البعد اللغوي المتمثّل بمعرفة اللغتين (حيث التفاعل الغنيّ لمباحث عديدة في علم اللغة, كالصوتيات, والنحو, والصرف, والدلالة, والأسلوب) صوب بعد معرفيّ (لا يقتصر على معرفة الموضوع ولا على المعرفة الأكاديميّة المتخصّصة) وبعد نقديّ يرتبط بمدى الجهد الذي بذله المترجِم في تكوين موقع فكريّ معيّن, وبمدى وعيه لهذا الموقع. فالترجمة ليست مجرد نشاط لغويّ، بل هي فعل ثقافيّ يقوم على إعادة تأهيل الثقافة الإنسانية وإعادة إنتاجها على نحو واعٍ.

أمّا الفائدة التي أتاحتها وفرة الترجمات، فعلى الرغم من فائدةٍ ما في مكانٍ ما (لا سيما لدى الباحثين الأكاديميين)، يبقى أنَّ الفائدة الحقّة تتطلب حقلاً ثقافياً وفكرياً وتعليمياً يتطور لا يتدهور، يتماسك لا يتخلّع، يُراكِم ويتمثّل لا يعيد إنتاج العجلة من الصفر في كل مرّة، يترجم الإبداع الحقّ والفكر النقدي ولا يقتصر على “البيست سيلر” الذي يروق لكسالى العقل والذائقة، ولا يجمع بين الخرافة والعلم من دون أن يشعر بأي وخز لا في العقل ولا في الضمير.

الترجمة هي الخضم الذي يتصارع فيه الإمكان والاستحالة، الحرفية والفحوى، التوطين والحفاظ على أجنبية النص

  • علقت ذهنيات كثيرة بالترجمات، وخونوا المترجم إن تصرف أم لم يتصرف بالنص، كيف يترجم د. ثائر، وبرأيك ما هو النص الأمثل بين لغتين؟

 – في الحقيقة، لا تروقني تلك التعميمات والمسكوكات الجاهزة المتداولة عن خيانة الترجمة وعدم إخلاصها الضروريين. لا يروقني بقاء دراسات الترجمة عند الكلام المستهلَك عن الأمانة والخيانة، لا سيما ذلك الكلام الذي يؤخذ كمسلمة بديهية ومفاده أنَّ الإخلاص فضيلة في كلّ شيء ما عدا الترجمة. في رأيي، أنّ الإخلاص لمعنى المؤلّف ليس أمراً حسناً فحسب، بل واجب ملزم، وأنَّ المترجم القوي المتمكّن هو الذي يستطيع نقل المعنى الدقيق، وإذا أردت  المعنى “الحرفي”، بلغة عربية تبدو كأنَّ النصّ قد كُتب بها. هل هذا ممكن؟ تجربتي تقول أنّه ممكن إلى حد بعيد، وإن يكن ليس تماماً أو بالمطلق. وعموماً، فإنَّ الترجمة هي الخضم الذي يتصارع فيه الإمكان والاستحالة، الحرفية والفحوى، التوطين والحفاظ على أجنبية النص، قديم اللغة المنقول إليها والوافد من الاحتكاك بغير لغات، إلخ. هكذا أترجم، تواكبني وتواكب ترجمتي رغبة أكّالة في البحث والمعرفة والإحاطة. وهذا، بالنسبة إليّ، هو النصّ الأمثل بين لغتين، يمنح النصّ الأصلي حياة جديدة في لغة جديدة، إنّما من دون أن يبدّل في معناه (ولا مبناه إذا أمكن)، تاركاً لنفسه حقّ النقد في الحواشي والمقدمات وربما في دراسات مستقلّة.

عادت البلدان التي حكمتها البرجوازية لتقع في براثن التبعية والتخلف، بل والخراب في كثير من الأحيان

  • عن اليسار والشيوعية وكل تلك الأحلام الشريفة.. هل تراجعت اليوم أحلامكم وكيف تصف علاقتكم اليوم مع الأفكار اليسارية عموماً؟

ليس اليسار ولا الشيوعية على ما يرام هذه الأيام، وإلّا لما كان العالم بالسوء والخطر البالغين الذي هو عليهما. لكنّ اليسار والشيوعية لم يكونا، منذ وجودهما فصاعداً، أحلاماً (سواء كانت شريفة أم غير ذلك). لم يكن اليسار ولا الشيوعية مجرد أمر تحلم به أو لا تحلم، تؤمن أو لا تؤمن، بل حركة سياسية تضمّ ملايين الرجال والنساء على مدى بلدان وقرون: الحركة الإصلاحية الأعظم في التاريخ البشري. وقد غيّرت وجه الأرض. وهما، كما يقول تيري إيغلتون، “ليسا مجرد مجموعة من الأفكار المثيرة، كالهيغلية الجديدة أو الوضعية المنطقية. ما من أحدٍ قطّ قاتل حتى الموت من أجل الوضعيّة المنطقية، على الرغم من أنّها ربما أثارت شجارات مُسكرة غريبة في قاعات استراحة المدرّسين. وإذا ما كان هيغليون جدد قد أُسْنِدوا في لحظةٍ إلى جدار وأُطلقَت عليهم النار، فإنَّ ذلك لم يكن لأنّهم هيغليون جدد. وفي ما يُسمَّى بالعالم الثالث، لَقِيَت الاشتراكية ترحاباً لدى معذَّبي الأرض الذين لم يُبدوا التلهّف ذاته لمعانقة السيميوطيقا أو لاحتضان نظرية التلقي”.

اليسار والشيوعية، على الرغم من تراجعهما الرهيب، يبقيان حاضرين اليوم كلّ الحضور في أمرين عظيمين غالباً ما يفوتنا أنّهما حاضرين فيهما. الأمر الأول، هو الديمقراطية. فبخلاف الرائج، ليست الديمقراطية القائمة في العالم الآن، حتى بمعناها الضيّق المقتصر على حقّ الاقتراع، بنت البرجوازية التي لم تتوقّف يوماً عن محاولات تحجيمها وتقييدها، بل بنت الطبقات الشعبية والشعوب المستعمَرة والنساء والملوَّنين والإثنيات الخاضعة (في حضور هائل لليسار والشيوعية). والأمر الثاني، هو أنّ الشيوعيين (مع أنهم لم يفلحوا في بناء الاشتراكية التي تصوروا أنهم يبنونها) وحدهم من أفلحوا براديكاليتهم في بناء اقتصادات مستقلة على قدر كبير من العدالة ومن إتاحة الفرص للجميع في البلدان المتأخّرة التي حكموها. في حين عادت بلدان الجنوب التي حكمتها البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لتقع في براثن التبعية والتخلف، بل والخراب في كثير من الأحيان. كلّ هذا، الديمقراطية والاستقلال، وأضف إليهما كوكبنا وبيئتنا، وليس المستقبل الاشتراكي البعيد فحسب، هو في خطر إذا ما تواصل تدهور اليسار والشيوعية، وإذا ما تواصلت اللامبالاة حيال السياسة، لا سيما اليسارية منها.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.