ياسر الزيات: أرجوكم.. أنا مرعوب

12 أبريل 2023

حاوره: هاني نديم

اقتحمنا عزلته وخجله الشديد ورعبه من الشعر والكتابة.. ياسر الزيات ومن لا يعرفه؟! حينما قلنا له نريد أن نتحاور حول الشعر قال: “أرجوكم.. أنا مرعوب”!

يعدّ ياسر الزيات من أهم شعراء قصيدة النثر في هذا الجيل ولكنه أكثرهم خجلاً وتوارياً وبعداً عن الأوساط الثقافية، يقدم نفسه بـ”شاعر سابق”، سألناه مباشرةً عن ذلك، فأجاب: “كل شاعر هو في تقديري شاعر سابق، بعد أن يفرغ من كتابة قصيدة، وقبل أن يشرع في كتابة أخرى. نحن نعيش في انتظار الشعر، أستطيع أن أقول ذلك عن نفسي، وربما يشاركني هذا شعراء آخرون. وفي المقابل، هناك شعراء ماهرون في الذهاب إلى الشعر، أو في استدعائه. هذه مهارة تنقصني، ربما، ولا أستطيع أن أكتسبها، وربما لا أريد أن أفعل. لدي علاقة مرتبكة بالشعر، فأنا لا أريد- أبداً- أن أكون شاعراً محترفاً، وعادة ما أقول إنني شاعر بعد الظهر، أي بعد انتهاء أوقات العمل. أنا شاعر هاوٍ طوال أكثر من ٣٥ عاما قضيتها مع الشعر، وأريد أن أظل كذلك. أريده أن يأتيني عندما يشتاق إلي أنا تحديدا، لكي نبتادل القبلات والعطايا، أو يذهب إلى شاعر آخر قد يكتب ما يمليه عليه الشعر في ذلك الوقت بشكل أجمل وأفضل مني. كم من قصائد جميلة قرأتها، وقلت: الله. شكرا لأنه كتبها نيابة عني، وأزاح عني عبء وألم كتابتها”.

 

لولا الصحافة لانتهيت في مصحّة

 

طيب.. ما الفرق بين الشعر والشاعر؟ يقول الزيات: “أستطيع أن أقول إنني أحب الشعر، لا صورة الشاعر التي قد تغري بأن أحافظ عليها. هذا الإغراء فخ قد يدفعنا أحيانا للكتابة لمجرد أن نستمر في الكتابة حفاظا على وجودنا في برواز الشاعر. بالنسبة لي: أفضل أن أكون شاعرا شبحا، لا وجود له إلا في شعره. وكذلك، أنا لا أريد أن أكتب ما أعرف. هناك إغراء الكتابة السهلة التي تعيد فيها اجترار لغة خبرتها، وتعيد الدوران في أرض سبق لك اكتشافها. أما أنا فألاعب الشعر ويلاعبني، أهرب منه ويطاردني، إلى أن تدفعني المطاردة إلى الاختباء في أرض جديدة، يمسكني فيها الشعر ويجبرني على إعادة اكتشافها”.

ياسر الزيات صحافي مرموق، كيف تداخل الشاعر مع الصحافي؟ يجيب: “دخلت إلى عالم الصحافة بعين الشاعر الشاب المتعالي على هذه المهنة، بوصفها مهنة تافهة لا تليق بالشعراء. وكانت في الخلفية مقولة سهلة سائدة هي أن الصحافة تقتل الموهبة. وقتها، كنت شاعرا صعلوكا متشردا، جائعا، عاطلا، ينام في بيوت أصدقائه، أو على الدرج في انتظار عودتهم، أو في المساجد والحدائق العامة. أنقذتني الصحافة من هذه المهانة المؤلمة التي تقتل أية موهبة، ووفرت لي الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة التي تليق بالشعراء. ألا يكفي أنها أغنتني عن أكثر الأسئلة اليومية إيلاماً: أين سأنام هذه الليلة؟ لولا الصحافة لانتهيت في مصحة، ولولاها لتوقفت عن كتابة الشعر وكرهته، إذ ما الذي يدفعني إلى الكتابة على الرصيف؟ هذه حياة لا تليق بشاعر، لكن الشعراء يواجهون خيارات ضيقة للحياة في بلادنا مع الأسف. وأنا في الحقيقة لم أكن أريد أن أصنع لنفسي أسطورة شخصية، كشاعر صعلوك جائع مشرد. لا أريد مجداً شخصياً من الشعر، ولا أريد لحياتي أن تسند شعري وتدعمه، برواية قصص عن المعاناة التي عشتها أو أعيشها. أريد لشعري أن يقف وحده في مواجهة الحياة، وإن لم يكن قادراً على البقاء وحده تماماً، مستقلا عن حياتي، بدون محاولات لأسطرتها، فهو شعر- بكل بساطة- لا يستحق البقاء. الشعر في تصوري يحب أن يعيش خارج الزمان والمكان، وإذا لم يستطع شعري أن يبقى في هذه المساحة غير المحدودة، فقد اجتهدت قدر استطاعتي، ولن أكون نادما أبدا على فنائه. أعرف أن هذا لم يكن مقصد سؤالك، ولذلك سأجيب الآن: منحني الشعر كثيراً في عملي الصحفي. منحني اللغة كلها، وساعدني على الكتابة بسهولة ويسر ورشاقة وإيجاد حلول لغوية لكل معضلة يواجهها محرر مثلي مهمته إعادة صياغة ما يكتبه الآخرون. وفي المقابل: منحتني الصحافة- بسبب اعتبارات المساحة عندما كنا نعمل في الصحف الورقية- منحتني القدرة على التكثيف التي هي حوهر الشعر، والتي نعاني- كشعراء- لكي نحققها. لم تكن لدي رفاهية اللف والدوران واستخدام المجاز والاستعارات والمحسنات البلاغية، فالصحافة لا تقبل ذلك. انتقلت هذه اللغة البسيطة من الصحافة إلى شعري، وساعدتني كثيرا على اكتشاف أن الشعر ليس هو اللغة، وإدراك أن اللغة هي مجرد وسيط يحتوي الشعر، لا أكثر. الشعر موجود في الهواء، ويمكنك أن تصطاده بالوسيط الذي يناسبك، لأن كل الفنون هدفها اصطياد الشعر. أنا ممتن تماما لكوني نصف شاعر ونصف صحفي، وأحب النصفين. يحزنني فقط أن الصحافة قفزت قفزات هائلة مع التطور التكنولوجي، وطورت لغتها وأدواتها وأساليبها، في حين بقي الشعر، والأدب عموما- باستثناء محاولات خجول للتجريب- في سجن النص وأسر الكلمات”.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.