منذر مصري: الكراهية موهبة لا أمتلكها!

27 نوفمبر 2023

حاوره: هاني نديم

يشكّل الشاعر السوري الكبير منذر مصري حالةً ثقافيةً متكاملةً أثّرت وأثرت وألهمت جيلنا كاملاً، إنه شاعر وتشكيلي ومثقف مشتبك مع المشهد السوري والعربي بشكل لا مثيل له، هذا إلى جانب أنه على الصعيد الإنساني، الحاضن والأب والصديق والذي يلقي النكات ويضحك حينما يجب أن يضحك ويبكي إن لزم الأمر.. 

إنه معلمٌ حقيقي على أنه – من لطفه – لم يكتب على السبورة يوماً أي فعل أمر! ولعل هنا بالضبط تكمن أهميته..

التقيته في دردشة سريعة حول الحياة وسوريا والشعر والأصدقاء.. سألته:

  • لن أسألك لماذا لم تسافر، أفهم دون شرح، ولكن أريد أن أسألك ماذا فعلت بعدما سافر كل شيء.. كيف تقضي أيامك؟

– أحيا!.. يا له من جواب!  طبعًا أحيا، أحاول ما أمكنني أن أبقى ممسكاً بأطراف خيوط حياتي.. أغلبها انقطع. أمل غامض، لا دليل عليه!  ليس أنا، ولكن الدم، اللحم، العظم! النهار، الشمس، الآخرين، يقدمونه لي رغم كل شيء!

 

  • ما زلت تكتب وترسم وتبتسم ولا تكره أحدا رغم كل ما جرى، كيف سننجو بهذه المحبة منذرنا؟

– نعم أكتب وأرسم.. مرة كتبت، لا أذكر بدقة: “أعمل لآكل وأشرب. أكتب وأرسم لأحيا”. وأيضًا أبتسم. فمي كبير ولكن: “ابتسامتك ساحرة” قالت لي يوما فتاة عرفتها. وأيضًا أجد صعوبة في الكره! الكره موهبة لا أمتلكها. هناك أناس أتمنى موتهم!؟ أو لأكون صادقاً، أتمنى اختفاءهم بطريقة أو بأخرى، ومع ذلك أبحث في نفسي عن شعور بالكراهية نحوهم، لا أجد!.. لا مفر من الحب ولا نجاة!

 

  • هل ما زالت نظرتك للشعر كما كانت في السبعينيات؟ هل ما زلت تذهب لنصك كما كنت تذهب في الماضي البعيد السعيد؟

– نظرتي اليوم تحتوي نظرتي السبعيناتية تلك. نظرتي اليوم أوسع. مثلًا كنت أردد: علينا أن نبعد الكذب عن الشعر كما نبعده عن الحياة” صارت: “الشعر توثيق دقيق للأكاذيب”. أتمنى من قارئ حوارنا هذا، أن يفهم ذلك على نحو جيد. لليوم ما زلت متعلقًا بالحقيقي والصادق في كتابتي. المشكلة هي أن الشعر نفسه لا يفرق!  في الماضي كان النص الشعر من يجيء إلي، اليوم، صحيح ما تقول، أنا أذهب إليه! فقدت أشياء كثيرة على ذلك الطريق الطويل، الذي يبدأ عريضًا ثم يمضي لينتهي بنقطة! أشبه براس حربة في الصدر! أما الماضي البعيد السعيد!؟ صديقي، ولا أقول هذا من باب المماحكة، لا ماض سعيد لي، ولا للسوريين قاطبة. اسمح لي أن أستعيد ما وصفت به 2011: ” إن السوريين استيقظوا من كابوس ليجدوا أنهم يحيون في جحيم”.

أعمالي الشعرية. تقارب عدد صفحاتها /1700/ صفحة وربما أكثر. السؤال من سيشتريها؟

 

 

  • حدثني عن مرسمك واللاذقية وأصحابك.. حدثني عن الشعر وسوريا والحرب.

– هاني!؟ أهذا سؤال.. أتريدني أن أخصص الباقي من حياتي لأجيبك عن سؤال واحد يشمل مرسمي واللاذقية والشعر وسوريا والحرب!؟

الأسئلة الثلاثة الأولى.. معقولة! مناسبة! أما هذا فهو انطلوجيا.. ولكن سأجيبك..

مرسمي: الغواصة الغريقة.. الغواصة على ضوء النواصة! احترق وغرق وطاف.. ولكنه ما زال صالحًا لأنهي حياتي وأنا أرسم وأكتب وألتقي الأصدقاء فيه. لا أخفي عليك، أني كثيرًا ما تصورته قبرًا مثالياً لي. كقبر الفنان في قصيدة رياض صالح الحسين:

لم يأسف على شيء

حينما أخذوه إلى المقبرة

لم يأسف سوى على المطرقة والإزميل

على الألوان والفرش

على اللوحات والتماثيل

وها هو الآن في القبر

هيكلاً عظميًا

ها هو يقوم جامعًا عظامه

سيصنع من سلاميات الأصابع

خواتم وأقراطًا

من الجمجمة دورقًا للنبيذ

من العود الفقري صحونًا وأكوابًا

وربما يصلح عظم الكتف

لصنع طائر.

الصداقة وطن. بالنسبة لي الصداقة قيمة عليا. حتى إني لم أدع خلافي بالموقف أو بالرأي، مهما كان، يلغي لي أي صداقة من صداقاتي

اللاذقية: أقسمت، وربما سأدفع ثمن هذا القسم غاليًا: “ولدت وعشت وسأموت في اللاذقية. قرار لا رجعة عنه. مهما كانت الظروف ومهما كانت العواقب.”

أصحابي: كما لم يستطع حسان بن ثابت إلّا أن يكاشف به:

“لِلَّـهِ دَرُّ عِصابَةٍ نادَمتُهُم.. يَوماً بِجِلَّقَ في الزَمانِ الأَوَّلِ

بيضُ الوُجوهِ كَريمَةٌ أَحسابُهُم.. شُمُّ الأُنوفِ مِنَ الطِرازِ الأَوَّلِ

وَالخالِطونَ فَقيرَهُم بِغَنِيِّهِم.. وَالمُنعِمونَ عَلى الضَعيفِ المُرمِلِ

يُغشَونَ حَتّى ما تَهِرُّ كِلابُهُم.. لا يَسأَلونَ عَنِ السَوادِ المُقبِلِ”

يا عين! الآن يصدق من يقرأ هذا الشعر أني أحفظه! والله حاولت، أسهل علي حفظ مجموعة شعرية كاملة لأنسي الحاج أو على الأقل قصيدة طويلة لجبرا إبراهيم جبرا، كقصيدته (رسالة إلى توفيق الصائغ) من حفظ ثلاثة أبيات لعنترة بن الشداد!؟

 

الصداقة وطن. بالنسبة لي الصداقة قيمة عليا. حتى إني لم أدع خلافي بالموقف أو بالرأي، مهما كان، يلغي لي أي صداقة من صداقاتي. البعض هو من فعل! صار لدي أصدقاء يمرون بجواري ويشيحون بنظرهم عني! حسنًا لهم لك. لا أستطيع إلا أن أكون نفسي، أومن بما أومن، وأصدق ما أصدق. خيبني بعض الأصدقاء نتيجة ظرف ما، أعرف أنهم ليسوا ملائكة! إلا أنه يوما لم، كما عادة يقولون، طعنني في الظهر.

لدي أصدقاء لا معنى لحياتي من دونهم. ورغم ذلك أنا أيضًا، عندما راح الأصدقاء يغادرون، لم أستطيع إلا وأن أكاشف الآخرين به:

“الأصدقاء يغادرون! فليكن. أما الصديقات؟ فلا!”.

الشعر: هل تصدق أني شاعر!؟ هل حقيقة أنا كذلك! في آخر مقابلة، أو قبل الأخيرة، منشورة في صحيفة القدس العربي، وضعوا عنوانًا لها: “منذر مصري عدو الشعر”. ولكن قريباً، أو ربما صدرت لتوه، عن دار أثر، في السعودية، ثلاثة أجزاء من أعمالي الشعرية. تقارب عدد صفحاتها /1700/ صفحة وربما أكثر. السؤال من سيشتريها؟ ما يجعلني أفكر بالقيام بعمل ما!؟ شيء قريب من الانتحار، أو الفضيحة، لجعل بعض الناس يهتمون بها ويقتنونها! وإما ستتكدس عند الناشر وأمره على الله!

سوريا: الشقية يا “عظمة بين أسنان كلب” كما قال رياض يومًا. غير أن السؤال الذي كثيرا ما فكرت به: “لماذا قال أسنان ولم يقل أنياب” أهي قلة دقة منه؟ أما ماذا؟ أما أنا فلدي كتاب كامل بعنوان: “سوريا بلدي كما خالدية أمي”. في الحقيقة إني لم أعِ سوريتي ولم أشعر بانتمائي لها، إلا بعد أن حدث لها ما حدث، وأصابها ما أصابها. شعرت أن هذا دين لها علي، وعلينا جميعًا.

أما عن الحرب.. فألف ألف لعنة

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.