محمد تركي النصار: من قوة الهدم تبزغ رغبة الحضور

26 سبتمبر 2023

حاوره: هاني نديم

بالنسبة لي؛ الملاءة الثقافية أهم من متن اللغة وأصولها في الشعر، إن النحو والصرف يمكن تدبّره، أما ملا يمكن اللحاق به هو المعارف والعلوم الشاسعة وتوظيفها في النص، فكيف إن اجتمعت القدرة اللغوية التامة مع الثقافة الواسعة؟ هذا نموذج محمد تركي النصار، الشاعر العراقي الذي يقرأ الشعر من مصادره وبأكثر من لغة ويمتاز بقدرة فائقة على مقاربة بقية مكتسباته مع اللغة والقصيدة. التقيته في هذا الحوار: 

  • أبدأ من النثر وعلاقتك الخاصة به ومفهومك المختلف، هل ما يكتب اليوم تحت هذا المسمى تراه قصيدة نثر حقا؟ بودي لو أعرف مفهومك للنص النثري وبنيوية الشعر عموما

 – أصف علاقتي بالشعر هكذا :

استكشاف متحول للوجود ونبذ للتعريف
تمرد على العادة
مصاحبة للمجهول القافز أبدا صوب أفق ما،
طفولة مدهشة تغني السر بأمل يتساءل وتوق مشبوب العاطفة والفكر للحياة
هذا هو احساسي بالشعر وليس تعريفي له
من قوة الهدم تبزغ رغبة الحضور الراسخة وعبر الصراع مع اللغة يجترح هذا الحضور وتخلق المفاجأة
ربما تكون هذه الدهشة منسية في كتاب مهجور منذ مئات السنين في مكتبة ما
ربما في غصن لم تمسسه يد في غابة عذراء
وقد تكون في المسافة
بين القلم الهارب من الرطانة والورقة البيضاء التي لاتفرط بالسر
لايعقّد ( سلطنة الغياب )
ولايقعّدها
بل يزعزعها بسجيله المنهار من مرايا الذات
وانشطاراتها الخالدة
من هنا يكون
التجريب شرطا لازبا
كل قصيدة
كل نص يموت عندما يتنمط
يدهشني إصرار البعض على اجترار مقولات وتنظيرات بليت بحكم التكرار

كل كتابة شعرية تتحول كما يقول اوكتافيو باث إلى كلاسيك بالتقادم
لا فرق بين قصيدة عمودية أو حرة
أو نص مفتوح
ما يعزز شبقي بالمغامرة أنني قارئا أفاجأ دائما
باكتشاف أسرار ودهشات شعرية لأسماء
قليلة أعرفها ولأخرين  كثيرين لا أعرفهم
إذ خطر موت الدهشة يكون كبيرا حينما تكون حريفا
كأنك تستهلك متعة الممارسة الساحرة بالاستقصاء الذي لا يقر له قرار فتقتل بذلك لذة اللعب
ومجانيته المتعجبة

لهذا  أتأمل كل يوم عيني الطفل المندهش بداخلي لأرى وأتحقق من قدرتي على الوفاء للحق والجمال .

 

 

  • ما هي حمولات الشاعر المعرفية، أو بعبارة أخرى، لأكتب قصيدة ماذا علي أن أعرف؟

–  جملتي الشعرية لحظة خاطفة تنبثق من طبقات سرية تمتزج فيها كل تجاربي مع الزمان والمكان منذ أول قطرات الضوء التي التصقت بعيني في لحظات الولادة الأولى.. هي البرق الذي منذ تلك اللحظات يظل يغذيني بكل جماليات التذوق الحسي وما يتراكم من تجارب الواقع وتشكلات الوعي.. قراءة وبحثا وأسئلة: الموسيقى والفلسفة والعلم والميتافيزيقيات والتاريخ كلكامش وهوميروس ماركس وطاغور وهولدرلين ورامبو وموزارت وزرياب ابو تمام وسان جون بيرس  وريلكة  وكينيث وايت والبريكان وحسب الشيخ جعفر وبرغسون ونيتشه والمتنبي وابي العلاء هو داروين والمسيح افلاطون ودريدا والسياب وهنري ميشو: كل هذا منصهر في روحك ووجدانك ومنبثق بشكل ونكهة  وتجليات لاتشبه أيا من هؤلاء , هنا تكون القصيدة نسفا للتكرار والنسخ  وإضافة ببصمتك الخاصة اليتيمة..

وللتوضيح المبسط أضيف :

في كل مايتشظى ثمة خيط سري يكافح لخلق نسق يبدو للآخر القارىء سلما لفكرة ما…

في مقابل ذلك.. أصغي لموسيقى خيط أخر متمرد على الارث : موسيقى وبلاغة ومجازات مهما امتلكت من طاقة التعدد في احتمالاتها تبقى مجرد خزين بلا ملامحك الخاصة أو رحيقك الروحي ,  وأعني  الذاكرة المتاحة للقارئ الذي يظل يجتر أطيافها وترجيعاتها ويكرر كل ما مايطمئنها على حالها..

بعيدا عن الحذلقة  والتنفج , أدعي لنفسي حق الخروج على ركام يستنسخ الوقائع ويترنم بالذكريات

أكتب لأتنفس.. مكسرا كل نسق , بلاغيا كان أم ايقاعيا

أكتب , لأحرر طاقة  يسرقها خمود النسيان في مكان ما بداخلي .

 

أميل إلى النص القصير المكثف الذي يستفيد من عوالم السينما الشعرية

 

  • من السبعينيات لليوم.. ما الذي اختلف في المشهد الشعري العراقي والعربي وفي نصك تحديدا؟

– على صعيد النص الذي أكتبه صرت الآن أميل إلى النص القصير المكثف الذي يستفيد من عوالم السينما الشعرية وإعطاء حاسة البصر والصورة دورا أكبر، حيث الاقتصاد في اللغة والتركيز على الجملة / الفكرة التي تتوزع على أبيات قصيرة مركزة، ويبقى ولعي بالعوالم السريالية والأجواء الكافكوية وسحر تاركوفسكي البصري والنزعة التهكمية اللاذعة التي تعكس برما عميقا بداخلي من موت عبثي محتوم مكتوب على كل الكائنات الحية  أقول يبقى كل هذا يمثل عمقا روحيا وذخيرة تغذي جنون الكتابة ..

وفي الحديث على المشهد الشعري العربي والعراقي يمكن رصد الاختلاف بتأشير حالة الانحسار لدور قصيدة التفعيلة والشعر العمودي وشعر الوزن اجمالا واقتصار حضوره على بعض المهرجانات والفعاليات التي لا يعول عليها من وجهة نظري, لا ثقافياً ولا إبداعيا بمقابل ذلك انفتاح عدد كبير من شعراء قصيدة النثر والنص المنفتح خصوصا الشباب من غير المكرسين اعلاميا او مؤسساتيا، على آفاق معرفية مختلفة وتقديم  تجارب شعرية مبهرة  فيها جرأة المغامرة وقوة حضور الجسد والتعبير عن مسكوت الدواخل الانسانية  بنصوص متوهجة, مغايرة تحقق حضورا شعريا عالميا لافتا.. ويمكن الاشارة كذلك إلى مسألة أخرى تتعلق باختفاء العديد من الأسماء التي كانت مهيمنة على المشهد الشعري العربي, وانصراف قسم كبير  منهم الى شؤون واهتمامات أخرى لأسباب متعددة، ناهيك عن انطفاء الكثير من الأسماء التي كانت تتسيد المشهد الأدبي.

أحب ليونارد كوهين وبوب ديلان وسيلين ديون وأعشق فيروز صباحا

 

  •  خارج الشعر داخل الحياة، حدثني عن محمد تركي النصار كيف يقضي يومه؟ ماذا يسمع وأين يتنزه؟

– حياتي اليومية بسيطة في تفاصيلها تمضي بين العمل الإعلامي، حيث الأخبار والتوتر والانشداد لما يجري من وقائع وكوارث في الخارج , ومايتبقى من الوقت يتوزع بين رياضة المشي والتنزه على شواطئ دجلة  ولقاءات مع عدد محدود من الأصدقاء ووقت اكرسه لمشاهدة بعض الأفلام ووقت أكثر للقراءة والكتابة والترجمة حيث أنشر مقالاتي في ثقافية جريدة الصباح. ولدي ديوانا شعر أعكف على مراجعتهما وكتاب مقالات مترجمة وديوان شعر لي مترجم للغة الانكليزية سيصدر قريبا عن إحدى دور النشر في فرنسا ..

الوقت الشحيح المتبقي استمتع بسمفونيات موزارت القريب إلى وجداني أكثر من سواه وأحيانا بعض الأغاني ومزاجي في هذا المجال صار يوصف الآن بأنه كلاسيكي. عالميا أحب ليونارد كوهين وبوب ديلان وسيلين ديون، أعشق فيروز صباحا، وفي أخر الليل استمتع بصوت علية الشجي النادر وسعاد محمد وعبد الوهاب.. شغوف جدا بالغناء العراقي السبعيني الزاخر بالعذوبة والشجن خصوصا فاضل عواد وفؤاد سالم ومائدة نزهت وعفيفة اسكندر.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.