كرسي الحكواتي.. من مقاهي المُدن إلى مساجدها!

 محمد البواب – كاتب وشاعر سوري

مزاحماً الأعناقَ المشدودة نحو الشيخِ الواعظ الذي لا يُعجزه سؤالٌ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقتحمُ شابٌ عشريني حلقة العلم مستقبلاً نظرات انتقاص من الطلاب المستنكرين قصّة شعره، يرفع يده ليسأل الشيخ أحد الأسئلة التي تزاحم أفئدة الشباب الناشئ: (هل يجوز سماع الموسيقى؟ ما حكم الحب؟ أيمكن للشاب أن يكلّم فتاةً مجرد كلام؟)

يخفق قلبه أمام جرأته الخدّاعة في طرح أسئلة كهذه وسط مسجد وبين يدي شيخٍ وطلابه طامعاً بسماع حكم فقهي وتأصيلٍ لمسألته! لكن الشيخ الحكيم يصدمه فينسج جوابه بخيوط المنامات والرؤى ويخبره عن ابن جاره الميت وكيف زار صديقه في المنام وهو يبكي أو يروي حكايا جدّه وجدته وكيف كانت تعيش خالته مع زوجها دون حب! يجمعُ دعابة ثقيلةً بينهما ثم يرمي سؤالاً ساخراً بمنطق الشاب ويعلن انتصاره الفكري والمنطقي أمام طلابه الذين تأخذهم سكرة الجهل!

ورد في كتاب صيد الخواطر لابن الجوزي أنه “سأل رجلٌ الإمام مالك عن مسألة فأجاب: لا أدري فقال: سافرتُ البلدان إليك فقال: ارجع إلى بلدِك وقل: سألتُ مالكًا فقال: لا أدري.”! وكروتينٍ شبه يومي يتكرر هذا العقم الفكري والاستسهال المغيّب للعقل والمشوّه للإرث الفقهي بينما يصفق الأتباع لشيخهم ويهللون لمناماته الصادقة وذكريات جدّاته! فلم يسبق أن سأل سائلٌ أحد الوعاظ والدعاة فأجابه بلا أدري! أو لم أطلع عليه أو نسيته! وربما كان جاهلاً لحكم المسألة أو ناسياً لها وهو أمر لا حرج فيه لكن الحرج في تغييب الحكم والاستعانة عنه بأخبار الرؤى وكلام العواطف الفارغ من الحجة والدليل لكيلا يقول الشيخ بين الناس أنه نسي أو لم يعرف!

“كان السَّلَفِ الصالح يتوَقَّفون عن الجزم بالتحريم، ويتحَرَّجونَ عن أن يقولوا: حلالٌ أو حرامٌ هكذا صراحًا، بل كانوا يقولون في الشيء إذا سُئلوا عنه: لا أحب هذا وأكره هذا، ولم أكن لأفعل هذا، وما يشبهه؛ لأنها أمورٌ مطلقة في مدلولاتها، غيرُ محدودة في الشرع تحديدا يوقَف عنده لا يُتعدى” بحسب كتاب الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي.

بين مبادئ الكرة الشاملة في كرة قدم عبارة تلخّص جوهرها وهي (خير وسيلة للدفاع هو الهجوم) وإطلاق التحريم هو خط هجوم الوعاظ الذي لا يفقد أثره في نفوس الناس والبعبع الذي يصطادون به أدنى محاولة لزعزعة الركود الفكري والفقهي إذ تجد الداعية يطلق إجماع العلماء على تحريم هذا وذاك فينكر الخلاف الحاصل ويدفن الردود والأدلة المخالفة لرأيه لتنشأ أجيال رضعت من ثدي الإقصاء وتخدّرت عقولها بدعاوى الإجماع الباطلة فلا تقبل مع الوقت أن تطرحَ للمسألة للنقاش ثم تبلغ مرحلة التكفير والتفسيق!

جهلٌ أم كذبٌ أم تدليس؟

” ثم بخست هذه الصناعة فتعرّض لها الجهّال وتعلّق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا عَلى القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هَذا الفن”.

لإحدى هذه الثلاث يسقط الواعظ في طامة ادعاء الإجماع فهو إما جاهل يخشى فضحه بين الناس فلا يتورّع عن أي قول مهما كان وإما كاذب تلقّى العلم عن أهله واطّلع على خلافات الفقهاء التي وسعت آلاف المصنفات ولكنه يرفضُ ما خالف رأيه أو ما خالف إيدولوجيا ينتمي إليها! أو أن يكون مُدلّساً يُطلق الإجماع بين العوام ليأخذوا به ويرددوه بينما يقصد الإجماع في مذهبه الفقهي الذي يتّبع! فيسكت ولا يبين ليحمل الناس على رأيه ويعمي أبصارهم عن غير ما يقول! وإذا ما أراد أن يُدلّس فوق تدليسه قال: (ما عندنا كذا وما سمعنا كذا!!)

ورد في تاريخ المدينة لابن شبة النميري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بقاصٍّ [واعظ].. فقال: ما أنت؟ قال: قاص. قال: كذبت، إنما يقص على الناس أمير أو مأمور.. فخفقه بالدِّرّة، وقال: ما أنت؟ قال: مُذكّر. قال: كذبت، قال الله جل ثناؤه ” فذكّر إنما أنتَ مُذكّر ” ثم خفقه بالدرة فقال: ما أنت؟ قال: ما أدري ما أقول لك! قلتُ: قاص فرددت عليّ وقلتُ: مُذكّرٌ فرددت علي!! فقال: قل: أنا أحمق مراء متكلف.

تقترب مهنة الحكواتي التي ابتدعها أهل دمشق من الانقراض في هذا العصر المعلوماتي الذي لا يغريه قراءة الحكايات بل صناعتها ولولا اعتبار الحكواتي فلكلور رمضاني للمطاعم والمقاهي لانقرض تماماً لكن هذه المهنة المحببة إلى قلوب الدمشقيين باتت تصدّر نفسها في زمان ومكان مختلفين حيث المكان هو المسجد والزمان هو زمن الجنون الرقمي الذي يرفع الجهلة إلى حيث لم يبلغ عالم أو أديب من قبل! فلا هي في زمان الأمّية وانعدام وسائل المعرفة ولا هي في المقاهي حيث ينفخ المتعبون دخان سجائرهم ليسمعوا حكاية عنترية أو هلالية!

وربّما حنّ الناس إلى الحكايات التي تناغي بساطتهم فاستغلّها دُعاة لبسوا ثياب الوعظ واتّخذوا عمامتها درعاً فلا يقدر مثقفٌ أو متنوّر على انتقادهم في تعويم العلوم واستسهال الأحكام وإطلاق النكات السخيفة في مجالس يقال أنها للعلم و لكنها تُنفَقُ بين المنامات المُختلقة وقصص الطلاق والزواج وكيف عاش الأجداد ونظريات الإقصاء ورفض الخلاف وإذا ما اقتحم جهالتها سائلٌ أو مستفهمٌ استنكر الشيخ أو الحكواتي سؤاله وقصّ له حكاية تُنسي الحاضرين غاية السؤال وجوهره أو قذفه بدعوى إجماع لم يسمع بها أحد! يسألني صديقي: من الذي سمح لكرسي الحكواتي أن يُحملَ من مقاهي دمشق إلى مساجدها فيتسلّق مقعده واعظٌ يسيء إلى المسجد وإلى مهنة الحكواتي التي لم يُعرف عنها كذب أو تدليس فأجيبه أني لا أستبعد أن يأتي يومٌ أرى فيه أحد الدعاة يحمله طلابه ويصيحون من حوله: (نحنا الدين ولاك)!!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.