مشاهدة متأخرة لمسلسل “الفصول الأربعة”

20 يناير 2024
شيرين عبدالعزيز – كاتبة سورية
كانت لا تزال عندي بقايا طابع سحريّ عن مسلسل الفصول الأربعة، والمرتبط في ذاكرتي مع الطفولة والأجواء العائلية التي كنا نعيشها ونحن نتابع حلقاته آخر التسعينيات وأوائل الألفية الثانية، حتى انتهى ذلك في داخلي، بل وتمنيتُ لو أني لم أتابع وأهلي هذا المسلسل قطّ، بعد إعادة مشاهدته منذ فترة مع زوجي حبيبي وابننا حبيبنا.
إذا عمدنا إلى تنحية السحر الذي أُحيطَ بمعظم الذين شاهدوه آنذاك، وارتباطه بذكريات الطفولة والشباب المبكر لدى كثيرين، ذلك السحر المزروع بوساطة الدعاية الإعلامية الكبيرة أولًا، وتمثيل المسلسل لكثير من تفاصيل الحياة اليومية لعائلات كان أفرادها يجتمعون ويتسامرون مثلنا، ويأكلون الأطباق السورية التي نأكلها، ويحكون القصص والأمثال الشعبية التي نعرفها، وتناوله موضوعات حياتية بسيطة كانت تمس وبشكل مباشر حياة كل صغير منا وكل كبير ثانيًا، ولا ننسى السبب الأهم وهو أن المسلسلات آنذاك كانت إحدى الوسائل الترفيهية النادرة لجميع أفراد الأسرة إن لم تكن الوحيدة…
إذا نحّينا ذلك كلّه وحاولنا استعادة ما رسّخه هذا المسلسل في معظم حلقاته في عقولنا وعقول أهلنا، ومقولة بعض حلقاته، بل ومقولته النهائية، لشعرنا بالأسف الشديد، وبالخجل الشديد من المساهمة في الإثناء عليه وجعله أيقونة للدراما الواقعية منذ تلك الأيام وحتى وقتنا الحاضر.
ولا سيما الحلقات التي رسّخت مبادئ وأفكاراً سطحية وبالية لدى أشخاص كثر: مثل أمي وجدتي وأبي، وخالتي وأخوتي وحتى أنا (حيث كنت في الثامنة من العمر)، ونحن نتابع حلقاته بشوق وتلهّف، كل يوم، طوال استمرار عرض جزأيّ المسلسل، وهنا بعض الأمثلة:
في الحلقة 9 من الجزء 1 يعمد المحامي عادل وهو شخصية الأب المتعلم والمتفهّم والمثقف إلى الاستشاطة غضبًا وقلب حياته وحياة ابنته المراهقة جحيمًا، والتصرّف بأساليب أجدها غبية، عندما يكتشف أنها تكتب رسائل حبّ إلى أحدهم.
يتبيّن لاحقًا أن الشاب مغنٍّ والصبايا جميعهن في ذلك العمر معجبات به، فيرتاح قلبه ويهدأ… المهمّ أنها لم تقترب من المحرّمات.
والحلقة 7 من الجزء 2 التي تتناول موضوع قانون الأحوال الشخصية أجدها مخزية، فقد ظهرت النساء جميعهنّ فيه جاهلات وضعيفات أمام ساديّة أزواجهنّ، بل وراضيات حتى بتعنيفهم الظاهر وغير الظاهر لهنّ، لأن ذلك يمثّل سنّة الحياة، وفي نهايتها تقول الشابة المتعلمة والمثقفة ناديا: نعم للحرية، لا للفَلْتَنَة!
أما في الحلقة 20 من الجزء 2 عند اكتشاف فاتن خيانة زوجها مالك “لأن طبيعة الرجال تفرض عليهم ذلك” بحسب رأيه، يدفعها الجميع إلى تناسي هذه “العادة” وعدم الانفصال عنه، لأن ابنتها صبية، وسيؤثر ذلك في سمعتها وبالتالي في زواجها عمّا قريب!
والنهفة الأخيرة في الحلقة الأخيرة من الجزء 2: حين يردد الجميع معًا نشيد حماة الديار في المستشفى ليتبارك بها الجدان المريضان بوصفه بلسمًا يشفي الجروح!!! ومن يبدأ بالنشيد؟ الشابة الواعدة ‘نارة’ محامية المستقبل!
عدا عن أن الشخصيات جميعها لا تتطور ولا تتغير ولا تتقدّم في شيء سوى في العمر، حتى أكثر الشخصيات حيوية مثل القارئ النهم والمتهكم والمنظّر نجيب، يبقى في مكانه لا يغيّر ولا يتغيّر، بل تنهار معظم مفاهيمه أو تصبح كذبة كبيرة أو في أحسن الأحوال جافّة وغريبة وغير مفهومة لكثيرين مع تقدم حلقات المسلسل، والشاعر برهوم يبقى شاعراً مغموراً وفقيراً ومَثاراً للنقد والسخرية، ويبقى التاجر الغنيّ المحبوب رقم 1 فقط لأنه ميسور الحال ويعيش برفاهية…. هذه كلها أنماط حُفِرت في أدمغتنا.
قد تكون حجّة صانعي هكذا مسلسلات أنهم التزموا ببراءة بفضاء الواقع وتمثيله بحذافيره، ونقله إلى الشاشة بإيجابياته وسلبياته، لكنها حجة أراها هزيلة مثل نتائجها، فالواقع غنيّ بالقصص وأساليب الحياة والشخصيات المتنوعة والمتباينة والمختلفة، إنما يتوقف الأمر على الزاوية التي يريد الفنّ أن يرى الناس منها هذا الواقع ليثبّتوا مناظيرهم على تلك الزاوية وحسب، لعظمتها وعموميتها التي توحي لهم بها.
فلم يكن ليخرج المسلسل عن واقعيته في شيء لو لم يتهم ‘عادل’ ابنته بارتكاب جريمة فظيعة، أو لو كان تصرّفه في موقف كهذا أكثر توازناً وتفهّمًا، أو لم تقرر ‘فاتن’ ابتلاع السكين والحفاظ على المظهر الخارجي للعش الذهبي، في حين أنها لم تعد تطيق العيش مع زوجها، أو لو أُعطيت قيمة أكبر للشاعر ‘برهوم’ أو للقارئ المثقف ‘نجيب’، أو على الأقل بعدم الجمع بين الحرية عند النساء والفَلْتَنَة؛ ففي الواقع نفسه كان ولا يزال يوجد آباء واعون ومتفهّمون ونساء فعلن ويفعلن الكثير لتحدي العادات والأعراف غير الملائمة لحرياتهن وقراراتهنّ الشخصية، مثلًا، وإظهار أمثال هؤلاء مع بعض الأفكار البنّاءة والدافعة إلى تطوير الفكر والوعي في هذه الدراما “الواقعية” لن يخلق فانتازيا خيالية، إلا إن كانت مقولتها في الأساس تدلّل إلى أنّ وجود هؤلاء وتلك الأفكار غير مرغوب فيه وغير مسموح، ويجب أن تتم تنحيتهم حتى عن الدراما، لئلا تُزرَع بذرة الوعي في المشاهِد الذي لا يملكها، وليُدرِك من يملكها أنه ليس سوى مجرّد ظلّ، وغير مرئي، وبالتالي لا قيمة له، وما تسليط الضوء عليه وعلى أفكاره سوى ضرب من الخيال.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.