عظّم الله أجركم – د.موسى برهومة

صار الموت أمراً عادياً. يأتيك نبأ رحيل صديق فتمتعض وتصمت، وقد تحزن كثيراً. لكنك بلا شك تستأنف رويداً رويداً، وبقليل جداً من الجهد، حياتك.

ولعل “عولمة الموت” قادت إلى عولمة من نوع ما أصابت الأحاسيس، لأنّ الموت صار شأناً يومياً. حسبُ المرء أن يستمع لنشرة أخبار كي تداهمه أنباء الموت من كل حدب وصوب.

كان أحدهم يتحدث عن معاناته وهو يحاول أن يقتل بعض البعوض الذي تسلل إلى غرفته، فحرمه من النوم. قال إنه ابتاع مبيداً للحشرات، وراح يرشّ زوايا الغرفة، وما توقع من أماكن ظنّ أنّ البعوض ربما يختبىء فيها. وقال أيضاً إنّ المبيد الحشري ترافق مع جلب ماكينة كهربائية ذات أضوية “نيون” خاصة بقتل الناموس. وبعدما أعياه الأمر، علّق بأنّ قتل عشرات البشر أسهل من قتل بعوضة في غرفة!

إنه العجز، ربما، عن الإحاطة بكل هذا الألم. لكأنّ المرء يحتاج بحاراً من الدمع ليذرفها فقط على الضحايا المرميين في جهات الأرض الأربع، تحت أنظار علّام الغيوب!

لا وقت للحزن المديد. هكذا تنبئنا حوادث الموت الجرّارة التي لا تتوقف أبداً. وتكفي إطلالة على صفحات الأصدقاء على “الفيسبوك” مثلاً ليرى المرء عديد العلامات السوداء التي تعلوها “إن لله وإنا إليه راجعون”؛ فالموت يعمل بوتيرة عالية، وبهمة ونشاط يحسد عليهما.

وإن كان للميت حظ سعيد، فقد يتمتّع بيوم أو بساعات من التعازي، مرفقة بصوره، على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بعض الصحف الإلكترونية. وإن كان ذا باع في السياسة أو الإعلام أو الأدب أو الاقتصاد، فلربما يحظى بمعزّين أكثر يؤمّون مكان العزاء ويصطفون طوابير لتقديم الواجب لأهل المتوفى، فيما ينخرطون بعد ذلك في الحديث عن مشاغلهم الخاصة، وربما يبتسمون ويضحكون ويتبادلون النِكات، فيما هم يردّدون اللازمات المكرورة التي تتدحرج على الألسنة، ولا تدركها القلوب.

أقصى ما يحظى به الميت من تكريم هو أن يتذكّره أصدقاؤه بعد أربعين يوماً، فيقيمون له حفل تأبين يتحدثون فيه عن مناقبه. وقد يتحمّس عمدة المدينة فيطلق اسم المتوفى، إن كان حُجّة في مجاله، على شارع أو زقاق.

الحزن على الميت يكون في القلب، يردد كثيرون. لكنّ تعبيراته المادية وعلاماته ترفع الحزن إلى مصاف الأيقونة، فهل ثمة فقدان أشد فداحة من الموت. لذا لا غرابة في أن نجد بعض نساء قبيلة الداني في أندونيسيا يقطعن طرف أصابعهنّ عند موت فردٍ عزيزٍ عليهن؛ لاعتقادٍ ديني قديم بأنّ روح المتوفّى تتحرّر من الاضطراب الروحي عند تنفيذ ذلك.

بعدها يربط الأصبع بخيطٍ بإحكامٍ لمدّة 30 دقيقة من أجل تخديره قبل قطعه ومن ثم يكوى طرفه ليلتحم الجرح.

زمان، كان للموت هيبة شديدة. وتذكر الوثائق التاريخية منذ 3000 عام قبل الميلاد طقوس الحزن على الميت في الحضارة المصرية التي تشمل المناحة حول سرير الميت في بيته، إذ تقوم النائحات بلطم رؤوسهن وصدورهن، ويحثين التراب فوق أجسامهن، وينادين السماء كي تشهد على حزنهن .

ويتبع ذلك موكب حمل الميت وأمتعته إلى النيل، ثم عبور النهر بقارب يحمل تابوتاً خشبياً في داخله جثته على شكل مومياء. وإذ ينتقل الموكب إلى الضفة الأخرى، يوضع التابوت فوق زحّافة تجرها الأبقار. فيجتمع المشيّعون في جماعات حول التابوت يتبادلون التعازي مع أصدقائهم. ويسير الموكب في طريقه المُترب بطيئاً حتى يصل إلى الجبّانة، ويطلق الكهنة البخور على التابوت، وهم يرتّلون الأناشيد الطقسية.

وعند بلوغ القبر، يتوقف المعزون، وتبدأ المرحلة الأخيرة. فيقوم الكهنة أولاً بالطقوس، كفتح الفم، وبعدها تركع أرملة الميت أمام التابوت، وتمسكه بذراعيها، كما لو كانت تحاول استبقاء الميت في الدنيا، وتقول كلمة الوداع. بعد ذلك يُنزلون التابوت إلى موضعه في القبر، ومعه متعلقات الميت. ثم يُقفل السرداب!

عظّم الله أجركم!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.