زوربا.. أفيون الحب والحياة – طالب عبدالعزيز

14 يناير 2024
طالب عبد العزيز – شاعر وكاتب عراقي
وأنا أعيد قراءة رائعة كانتزاكي (زوربا اليُوناني) بعد قراءتي الأولى لها قبل ثلاثين سنة، أو أكثر، وجدتني، أفكرُ بالذين أغلقوا كتابهم الأخير، بعد إتمام تعليمهم، وقد أخذتهم الوظيفة على سلمها الطويل، صاعدين ونازلين، ثم تزوجوا، وخلفوا بناتاً وبنين، وصاروا يروحون ويجيئون، محملين بأكياس الفاكهة واللحم والخضار.. وأسأل ما إذا كان الكتاب، أيَّ كتاب، يعني لهم شيئاً أم لا؟ الكتاب، الذي ما زال بعضنا يسعى اليه، ويبحث عنه، ويقتنيه بأغلى الاثمان، يقرأه، فيجد ضالته فيه، وقد عز عليه إيجادها في مكان آخر، على سعة خرائط الأرض وعدد من عليها.
واضحٌ للذين قرأوا الرواية أنَّها دراما عالية المعاني، عميقة الأثر، أخذت مادتها من صراع قديم جديد، بين العقل والروح، بين ما يتحكم به العقل وما يندفع اليه الجسد، فالرئيس (الراوي) وهو العليم، الذي اكتسب خبرته في الحياة من الكتب، قارئاً نهماً، ومؤلِفاً متأملاً، يجدُ نفسه صغيراً، جاهلاً و(أميَّاً) أزاء البطل الاسطوري زوربا، الذي لم يتلق تعليماً، إلا بحدود القراءة والكتابة، لكنه ذهب بكليته إلى التهام المعارف، لا من الكتب، إنما من الحياة، فالمهن والحرف التي أتقنها، والأسفار التي قام بها، والبحار التي قطعها، وأحاطها بمعرفته جعلت منه المعلم والاستاذ عند الرئيس،الذي أخذ عنه علوم الآلهة والأديان والحروب والخمور والطعوم والنساء .. حتى أنه، وفي لحظة ما، لم يعد يرى في أشعار مالارميه أهميةً، أزاء الحياة التي صار يحياها، ويصوِّرها له.
أتجرَّأ وأقول: لولا هذه الرواية العظيمة وبضعة كتب أخر لما وقفنا على أهمية الفعل الإنسانيّ.
ينثر كازنتزاكي في روايته الملحمة الكثير من الشّعر، فالكاتب الرئيس فيها (هو) يدَّعي بأنّه شاعرٌ ايضاً، وإذا كانت الجمل التي ترد على لسانه انيقةً، مطبوخةً بفرن الشعر فأن الجمل التي تأتي على لسان زوربا هي الأبلغ والأجمل دائماً.»
في الهواء المرتجف كانت تعبق رائحة الاغتصاب والموت» هكذا، يتحدث عن وجوده في الحرب، حين أحرق الجيشُ اليوناني قريةً في بلغاريا. ولا أعرف كيف كان شكل المرأة التي مات عنها زوجها في قوله: « لوسادة المرأة الأرملة رائحةُ السفرجل». كان زوربا يقص خصلةً من شعر رأس كلِّ امرأة يعاشرها، فجمع خصلاً كثيرةً، سوداءَ، وشقراء، وبنيَّةً، وبيضاء أيضاً، حتى أنه صنع منها وسادةً له، لكنه أحرقها بعد أنْ تبيّن عنده أنَّ الأمر لن ينتهي عند واحدة منهنَّ. كانت خبرته تتعاظم يوماً إثر آخر، فالكستناء تحتاج إلى خمر، والجوز الى العسل. إنه يقول:»إنَّ قلبَ الإنسان يتألم عندما تمطر» هذا المخلوق الذي كان يعظّهُ ظمأٌ أبديٌّ لكلِّ شيء، بما في ذلك الموت.
كتبٌ كهذه تجعلنا في مواجهة الحياة، وترفع عن كاهلنا اعباءَ كثيرةً، وتحرِّضنا على كتابة الشّعر، ليس الذي يطلبه منا محررو الصفحات الثقافيّة، ولا ذاك الذي نُدْعى إلى قراءته في المهرجانات، ابداً، ما هو كذلك، إنما الشعر الذي لا نقدر إلّا على كتابته، ذاك الذي يقلق مجلسنا بين من نحبّهم ونحترمهم، ويدهمنا في الأمكنة التي لا نشعر فيها إلا بالغربة والضجر. هل أنسب لنفسي كتابة هذه:» في لحظة صغيرة، وسط العاصفة، يمكنني إعادة ترتيب شَعْرِك إلى الوراء، وبجرعة واحدة، ليس إلّا، من الحشيش، سأجعلُ الطريق إلى بيتك سالكةً»، ولعلّه بول فاليري هو الذي كتب:» ألن تكون ثملاً من الفرح/ عندما ترى مائة ألف شمس/ تخرج من الظلام، على نسيجك الغامض؟»
لكنَّ زوربا يتوِّج المعنى المخزي لتفاهة وجودنا أحياء بقوله:» لا يهمُّ ألّا يكونَ للإنسانِ رأسٌ، يكفي أنْ تكون له قبّعة». ألم تكن الكينونة عند هيدجر هي ما معنى أنْ تكون في هذا العالم؟
أو لماذا نكون؟
وتمنحنا قراءة زوربا الجرعةَ الكافية من أفيون فهم وحب الحياة، وربما أغنتنا عن آلاف الصفحات التي تضعضعُ خشبَ مكتباتنا. هذا المخلوقُ لديه إيمانٌ غريب، فهو يرى أنَّ قلب الإنسان أوسعُ من كلِّ شيء:» لا تسعُ الإلهَ الرحيمَ طبقاتُ الارضِ السبعِ وطبقاتُ السماءِ السبعِ، لكنَّ قلبَ الانسان يسعه، فاحذر يا رئيس أنْ تجرحَ قلبَ إنسان» لذلك كان يعبد نفسه، مثل الأفارقة، الذين يعبدون الثعبان، لأنه يلامس الارضَ بجسده كله، ببطنه وظهره وذيله. وبحسيةٍ أنتمي لها، كان يقول للرئيس بعد أن أكلا جدْياًّ وشربا الكثير من الخمرة:» ألا تشفقْ على الجَّديِّ الذي أكلته، هيّا نرقص، أتتركهُ يضيع هكذا، تعال ! ليصبحَ الجديُّ رقصاً وأغانيَ، إنَّ زُوربَا قد بُعث.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.