د. وليد الصراف: مقتنع بالبيت الخليلي ولن أهجره وأسكن بيتاً غربياً

10 أكتوبر 2023

حاوره: هاني نديم

كيف نقدم شاعراً بحجم د. وليد الصراف؟ الأمر يشبه الدخول من ردهة قصرٍ فخمة، تود – على جمالها – أن تنتهي وتجلس! إنه شاعر معروف معرف من كبار شعراء جيلنا، له من الجوائز والحضور ما يغني عن الحديث.

التقيته في دردشة سريعة مسترجعاً معه الأيام القديمة والجديدة.. سألته:

  • منذ تجمع الشعراء منتصف التسعينيات وقصيدة “البيت” حتى اليوم، ما الذي اختلف في بنية نص وليد الصراف، كيف كنت تنظر إلى الشعر وكيف تراه اليوم؟

– ماقتل الشعر سوى تفكيرنا في بنية الشعر وسؤالنا الدائم هل اختلفنا عن السالفين وهل أضفنا وطرحنا!.. الشاعر العربي لايخرج من بيته ولكنه ينظر إلى نفسه في المرآة عشرين مرة في اليوم، وهو لايتمرد على ملابسه ولون ربطة عنقه وما يمكن إصلاحه في هيئته، ولكنه ينظر إلى ملامحه ويتمرد عليها دون جدوى.. إنه يتمرد على نفسه نفسها.. والمرايا أحيانا تخونه وثمة مغرضون أو جهلاء يثبطونه أو يوهمونه بنجاحات هي فشل.

أنا مقتنع بالبيت الخليلي ولن أهجره وأسكن بيتاً غربياً ولن أكسر شباك إيقاعه فيدخل الإسفاف من الشباك.. كما إنني مقتنع أيضا بمؤامرة السياب على الخليل! ولا أسمع النقد إلا من النقاد حقا، ولهم اخلاق النقاد حقا، وأنظر إلى الشعر اليوم كما نظر إليه الشعراء أمس. لافرق بين بيت للمتنبي وبيت لنزار إلا بما استجد في العصر من ضرورات تعبيرية لاترفع من شأن الجديد ولاتحط من القديم، بل تعطي الشعر سمتها، والشعر في النهاية سرّ يستعصي على التفسير. وإلا كيف تكون قصيدة للبحتري بل لإمرىء القيس فاعلة أكثر من معظم مايكتب الشعراء اليوم بكل هذه المتغيرات التي طرأت.

البعض لديه عمى ألوان والبعض لديه عمى أوزان

لا أكتمك وقد قلت هذا من قبل؛ أنني أحيانا أضيق بالبيت الخليلي فاخرج لأتمشى في فضاء السرد، ولكنني لا أبيت في عراء شكلٍ آخر ! ومن يتوهمون أن قصيدة النثر هي البديل لو تفحصت أوراقهم جيدا تجد أنهم يريدون أن يكونوا شعراء ولم يتقنوا قواعد اللعبة.

قصيدة النثر عودة بالشعر إلى ماقبل الوزن.. إلى طفولة التعبير البشري الذي لا يصمد أمام عوامل التعرية.. فأن تقول شيئا نثرا فانك يمكن أن تدهشني وغدا ستقل الدهشة وبعد غد ستندرج في العادي والمألوف، ولكن عندما تقوله وقد خاض تحدي الوزن والقافية دون تكلف وتكون قد أخفيت الصنعة ألى حد أنك انسيتني “مستفعلن فعلن” والقافية الرتيبة، فإنك هنا تحتال على الزمن وتقهره وتحتفظ بالدهشة رغما عنه.

إن أي بالون يمكن أن يدهشك ولكن بإمكان دبوس واحد أن ينهي هذه الدهشة.. أما أم البعض يحكم على الشكل من خلال القصائد الرديئة، فإنه يخدع نفسه ويخدعني طبعا. الشعر العظيم نادر وليس كل موزون شعرا ولكن كل شعر موزون!

وأذا كان البعض يرى الوزن ترفا، فلأن أذنه لا تميز بحرا عن بحر ، وطبعا من لا يتحسس أمرا يعتبره ترفا. وطالما قلت إن البعض لديه عمى ألوان والبعض لديه عمى أوزان.. أقول هذا واستثني النماذج النادرة جدا جدا من قصيدة النثر.

 

سألتني عن قصيدة البيت في منتصف التسعينيات. كانت جرت مسابقة عراقية عام 92 على لقب شاعر الشباب الأول في العراق وكانت اللجنة التحكيمية من كبارٍ، أمثال عبدالرزاق عبدالواحد وأل ياسين وجلال حنفي وسواهم، وقد ولدت اسماء في هذه المسابقة أمثال مضر الالوسي ومحمد البغدادي ومهدي الغانمي وحاتم حسان الدين وأفضل فاضل ورحمن غركان وسواهم.. وكان ثمة أسماء لم تشترك كعبد نور داؤود ومحمد البياتي وأجود مجبل وحسين علي وسواهم وكان عارف الساعدي وبسام صالح ونوفل ابو رغيف صغارا سنا وقتها ولم يشتركوا, فزت انا باللقب وانتبهت الساحة إلينا جميعا..

وبعد سنتين من هذه المسابقة أخذ الشباب يفاتحونني بمشروع تنظيري هو قصيدة الشعر، لم اقتنع وقتها ولم أنضم اليهم لأنني مؤمن أن الشعر مشروع فردي يستمد قوته من الاختلاف الفردي وليس من المشتركات الجماعية. وأنه إذا كانت ثمة مشتركات تستحق أن تؤسس لشيء فإن هذا الأمر ينتبه إليه وينظّر له نقاد وليس شعراء المشروع نفسه.. لذا لم أنضم إلى اصدقائي بل إخوتي وقتها.

وحتى الآن أنا لا أؤمن بتنظيراتهم ولكن أؤمن أنهم شعراء وظلوا شعراء أباهي بهم.. أما العموديون الجدد؛ فأنا معجب بالبعض منهم دون حدود ولكن هناك الكثير من الكذابين فيهم.

تطور الإعلام فاستعنّا به لطمر النجوم وتلميع الحصى

ومرارا قلت إن أيا من المبتدئين ممكن أن يدخل على “مستفعلن فعلن” ويرسم صورة جديدة ويحقق انحرافاً في معنى، ولكن ماذا عن الرصانة؟ ماذا عن القافية المستريحة ماذا عن البيت الذي يفضي الى البيت؟ ماذا عن القصيدة كائنا حيا له شخصيته الخاصة؟.. هذا كله لا يتحقق. وقصيدة التفعيلة هي الأخرى تراجعت وتنتظر موهبة كبيرة تعيد مجدها، أما أنا فما زلت أكتب العمودي والتفعيلة وأفرح أن كبار الكبار من النقاد أشادوا بما كتبت.

 

  • إن سألتك عن المشهد الشعري اليوم؟ العراقي والعربي الكبير، كيف تجيب بمباشرة ووضوح؟ ما هي النواقص والمثالب وكيف نصل إلى أبعد في شعرنا العربي؟ 

– المشهد لايسرّ عدوا ولا صديقا، وما أفسد المشهد العربي سوى الإعلام، فنحن كدأبنا نمسخ الحضارة، الديمقراطية مثلا وظفناها لانتخاب رئيس العشيرة وتكريس العشائرية والمناطقية، كذلك تطور الإعلام.. استعنا به لطمر النجوم وتلميع الحصى وأصبحت مؤسساتنا تحتفي بالرديء، وأصبحت الكثير من ملتقياتنا مناسبات لتبادل المنافع على حساب الشعر ولقاء بين تجار وعشاق عابرين وصفقات فيها كل شيء إلا الشعر .

هل سمعت بالشاعر المرحوم محمد البياتي؟ لا. إنه أهم من أغلب من تسمع بهم ممن يظن الناس ويظنون هم أنهم شعراء في هذا المشهد. حتى الزهور الشعرية الواعدة يفسدها هذا الخريف فلا تتفتح.

 

الإعلام أفسد المشهد وطبق نظرية زوال المركزيات على الأدب فلم يعد يظهر شكسبير جديد

وسبق أن قلت يوميا ملايين الناس تحدث ملايين الأحداث، فتأتي عين الكاميرا لتقع على آحاد من هذه الأحداث وتعرضها على الملايين، وعين الكاميرا لدينا حولاء تقع على الشوك وتترك الورد في الظل.. نحن الأمة الوحيدة التي عدد شعرائها أكثر من عدد جمهور الشعر فيها، وعندما كان لدينا مجرد إذاعة وجريدة محلية وتلفزيون محلّي بالأبيض والأسود كان شعراؤنا الآحاد شعراء حقا وجمهورنا بالملايين.

الإعلام أفسد المشهد وطبق نظرية زوال المركزيات على الأدب فلم يعد يظهر شكسبير جديد بل مئات من الجيدين أو الأوساط، وهذا يخالف المنطق! لقد أصبح الأوساط أغلبية وفرضوا قانونهم إعلاميا في غياب النقد الحقيقي.. والنقاد الحقيقيون أندر من الشعراء الحقيقيين، إنهم السلطة العليا التي يأتمر الإعلام بأمرها، وفي غيابهم يحتل الغوغاء مقرات القيادة كما نرى.

 

  • بعيدا عن الشعر، قريباً منك، عن يومك العادي كيف تقضيه، عن الأصدقاء، القراءات، السفر والموصل.. حدثني..

– يقولون إن الوقت من ذهب، ولكن جيلي من العراقيين لم يعرفه إلا نحاساً ونحاساً زئبقيا إن شئت، فقد مرت علينا سنين عجاف أخذت معها أحلى سنوات الصبا والشباب، وهذه السنوات الأخيرة ربما تنبينا فعلا أن الوقت من ذهب، ولكن بعد فوات الأوان، فكل ساعة من الأربع وعشرين ساعة في يومنا هي ذهب عيار أربعة وعشرين منمنم الدقائق مشغول الثواني ولكن..

السفر أتيح حيث تخونك قدماك، والقراءة حيث تخونك عيناك، والأصدقاء حيث فقدت القدرة على خلقهم، والحياة حيث دنا الموت، إن كل منعطف من البهجة تقاطعه قبور أحباء، وكل هديل جديد يلتبس بعويل قديم، والحمد لله أنني لا أستعين بنظارتين حين أقرأ ولا بعكاز حين أسير، ولكنني أحس أحيانا أنني بطل هذه القصيدة التي كتبتها قبل سنوات:

لم أعد أملك قلبي تارة سجع حمامات وأخرى طبل حرب

لم أعد املك دربي مذ رشاه الغيم عنه لم يعد نجميَ ينبي

لم أعد املك سيفي

انّ كفّ الغمد أقوى حين تنوي الحرب كفّي

لم أعد أملك نفسي لم يعد كالأمس يفضي لغدي يومي وأمسي

لم أعد أملك سرّي فبه أدرى وأدرى بيَ منّي صار غيري

لم أعد أملك عمري كلما بادرتُ يومي.. عنّ قبري!

أما عن الموصل.. فلم أعرف قيمتها وأعشقها إلا هذه الأيام..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.