حسن المقداد: أعيش وأنتظر وأمشي على طريق أحلامي..

11 ديسمبر 2023
حاوره: هاني نديم

كلما قرأ الشاعر اللبناني حسن المقداد قصيدة، سمعت في خلفيتها دبكات وأنغام البعلبكيين وشممت رائحة أحجار المعابد التي ما تزال تذكرنا بتاريخها المجيد. لا أعرف حقاً سبب هذا التداعي الذي يتلبسني وأنا أسمعه يلقي، إلا أنني أكيد من نصه الخاص ومعجمه الساحر، وأكيد أنه من الأصوات التي تعمل بجدية وحساسية استثنائية. تأجل هذا اللقاء بسبب الحرب في بلادنا الحبيبة.. ولكن لا بد من نشره ولا بد من تعزيز ثقافتنا العربية في كل وجوهها..

التقيته في هذه الدردشة الخاطفة بين نصيّن.. سألته:

  • من البدايات.. كيف كتبت أول قصيدة، وكيف كتبت آخر قصيدة، لنتحدث عن السيرة الذاتية لنصك، ملامحها ومنعطفاتها.. هذا ملهم.
– خطر لي في البداية خاطرٌ بديهيٌّ أو مطروق، هو أنني لم أكتب قصيدتي الأولى بعد، لكنَّ هذا تبسيطٌ مُخلّ، ما أعرفه أنّني كنت متعلّقاً باللغة العربيّة وإمكانياتها منذ طفولتي، واكتشفت مبكراً أنني أستطيع كسر العلاقات النّمطيّة بين الكلمات لخلقِ صورٍ ومعانٍ جديدة، ربّما ندعوه بالدارجة “اللعب عالكلام”، كنتُ أجرّبُ ذلك على سبيل الفضول إلى أن اكتشفت معلّمة اللغة العربيّة لعبتي هذه في الصف الرابع الابتدائي على ما أذكر، كان الفرض المنزليّ كتابة رسالة تعزية وجدانيّةٍ إلى صديق، وكتبتُ نصّاً لا أذكر منه شيئاً، ولكنّني أذكر ويذكّرني أتراب المدرسة بأن المعلّمة لم تصدّق في البداية أنني كاتب هذه الرسالة، فبعد أن تثبّتت طبعت منها عدداً من النسخ كافياً لتعلّقها على كلِّ لوحة إعلان في المدرسة، وبقيت معلّقة حتّى آخر السّنة، أظنُّ أنَّ هذه كانت بدايتي الفعليّة.
كان هذا أوّل نصٍّ أكتبه فيلقى اهتماماً من غير الأهل، أعني أمّي التي كانت مؤمنة بي منذ البداية، فيما رأى أبي أن السير في طريق الشعر مغامرةٌ غير محسوبة النتائج، على كلٍّ فالأمر قد وقع والأوان قد فات، وأبي صار مقتنعاً تماماً أنني ولدت لأكون شاعراً، لكنَّ إقناعه لم يكن سهلاً بطبيعة الحال، خصوصاً أنّني الابن البكر الذي تُعلّق عليه آمال كثيرة، والشعر ليس مهنة. كبرتُ وتغيّرت المعلّمة التي كنتُ أرسل إليها “قصائدي” وتغيّرت الأولويات، لكنّني بقيت أكتب لنفسي وبعض الأصدقاء، وأنشر تحت أسماء مستعارة في المنتديات الإلكترونيّة التي كانت طفرةً تكنولوجيّةً هائلة في فترة مراهقتي قبل عصر فيسبوك، باختصار بقيت في شبه عزلة حتى عام 2016 حين وقفت لأوّل مرّة في بعلبك لأقرأ قصيدة أمام ناسٍ لا أعرفهم، كان الحراك الثقافي الشبابي في ذروته تلك الأيام وكان أن ساهم التواصل مع شعراء من أجيال ورؤى مختلفة في صقل تجربتي وإعطائها الجديّة اللازمة، ثمَّ حدث كلُّ شيءٍ بسرعة، شاركت في أمسيات كثيرة وفزت بجوائز عربيّة وطبعت 4 كتب، بالطبع لم أكتب قصيدتي الأخيرة بعد، ولا أحسب أنني سأكتبها، أشعر أنني أكتب قصيدةً واحدة منذ بدأت، قصيدةً متولّدةً من أثر الذين مشوا قبلي، كلّما طال بها الزمن وحكَّكتها التجربة أصبحت أهدأ وأبعد، ولن تنتهي بموتي لأنَّ هناك من سيكملها بعدي، كما أكمل أنا طريق من سبقوني.
ما زال في بالي صوت جدّي الطافح شجناً وهو يغنّي العتابا “فراقيات” على الطريقة البعلبكيّة
  • لا بد لي من السؤال عن بعلبك الشمس والمواويل والأهازيج، ماذا أخذت منها وماذا خليت؟
– فتحتُ عينيَّ على العالمِ في بيتٍ بسيط على أطرافِ بلدةٍ سهليّةٍ صغيرة تبعد عن بعلبك كيلومتراتٍ قليلة وتُدعى “مقنة”، حول البيت أشجار مثمرةٌ ووراءه أراضٍ ممتدّةٌ يُزرع بعضها قمحاً أو عدساً أو تبغاً ويترك بعضها للطبيعة، ثمَّ وادٍ صغيرٌ ساحرٌ يتخلّلهُ نهرٌ موسميٌّ كان مسبح الصبيان ومنتزه العائلات قبل زمن المسابح والمقاهي. هذه الأماكن كلها كانت مسرح طفولتي، مساحاتٌ شاسعة، معالمُ وصورٌ وذكرياتٌ علقت في قصيدتي ونظرتي للحياة، ومعها علقت تفاصيل أخرى: مشهد النجوم في سماء تمّوز الصافية، الثلجُ وقناديل الجليد ومدفأة الحطب في كانون، صوت جدّي الطافح شجناً وهو يغنّي العتابا “فراقيات” على الطريقة البعلبكيّة، أو يتلو القرآن بإحساسٍ رقيقٍ قبل صلاة الفجر.
أمّا بعلبك المدينة فمرتبطةٌ بفترة ما بعد العشرين، منها انطلقتُ شاعراً وفيها كان مقعدي الأثير على مدى سنوات، في مقهىً شعبيٍّ في حيِّ القلعة مواجهاً لمعبد باخوس والأعمدة الستّة الباقية من معبد جوبيتر، على يميني المعبد الأثريّ الدائريّ لربة الخصوبة والجمال فينوس يليه المسجد الأمويّ، وعلى يساري الكنيسة المارونيّة، هناك كنت أجلس للقراءة أو الكتابة أو لقاء الأصدقاء؛ سقفنا السماء وعلى طاولتنا الفكرة الجيّدة والقهوة الرديئة. لبعلبك وجهٌ قاسٍ ومخيفٌ أيضاً، أبناء الأرياف الذين دمّرت الحروب والمدن الكبيرة أسلوب معيشتهم وأبقتهم أحياء، البرد الجافُّ في الشتاء، والغضبُ القديمُ في النفوس. كل شيء يتغيّر، اليوم في بيروت أفتقد الفضاء المفتوح الذي كانت تمثّله بعلبك، فأبحث عنه في الدّاخل.
  • برأيكم؛ هل بإمكان القصيدة أن تنهض دون المعارف والثقافات والعلوم المتصلة؟
– تحضرني هنا القصّة المشهورة للشاعر العباسي علي بن الجهم أوّل دخوله على المتوكّل قادماً من البادية مادحاً له بقصيدة مليئة بالألفاظ الوحشيّة والمعاني البدويّة، حيث أمر المتوكّل له بمسكن ناعمٍ مقابل جسر الرصافة وطعامٍ خفيف وجوارٍ وخدم يطوفون عليه في الليل والنهار، فلمّا ذاق رفاه العيش وسمع طراوة الألسن في بغداد، عاد للخليفة بمطلعه الأشهر: عيون المها بين الرصافة والجسرِ جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري.
وإن كنتُ ممن يشكّكُون بتفاصيل هذه القصّة، فليس أدلّ منها على تأثير البيئة والثقافة والمعارف المكتسبة على طبيعة القصيدة وأفكارها وألفاظها، وإن تتبّعت شعراء العرب على مرِّ التاريخ تجد أن أكثرهم إحاطة بالمعارف والأساليب الجديدة في عصره هو أقدرهم على خلق الدهشة وإحكام القصيدة، من هؤلاء شعراء المعلّقات الملّك الضلّيل الذي وصف مقتنيات الملوك ولبيد الذي أدخل التأمّل الفلسفيَّ في قصيدته وعمرو بن كلثوم والمدن التي زارها وزهير ورؤيته الوجوديّة العميقة، ومنهم الثلاثة الأمويون الكبار جرير والفرزدق والأخطل، ثمَّ شيخ المولّدين بشار وأبو نواس والمتنبّي وأبو تمام وأبو العلاء وغيرهم إلى عصرنا هذا، القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً هو التجديد، والتجديد لا يكون إلّا بتوسيع المدارك، وفي زمننا يصبحُ الأمرُ أوضح، خصوصاً أن أكثر جمهور الشعر اليوم من الشعراء أو المتخصّصين، لذا فهو جمهور متطلّبٌ لا يرضيه العاديُّ والمكرور، والخلاصة أن القصيدة يمكن أن تكون بمحض المعارف الأوّليّة، ولكنها لا تعيش وتتطوّر وتفارق إلّا بكسر النمط وتجاوز المطروق.
يحرّكني إيماني بنفسي وتمسّكي بهويّتي وحبّي لهذه البلاد المنذورة للرسالة المسكونة بالمعجزات منذ فجر التاريخ
  • عن حسن خارج الكتابة وداخل الحياة.. مباهجه وأحزانه، آمالك وأحلامك، الأصدقاء والبلاد والأغاني..
– لستُ شخصاً اجتماعيّاً بطبيعتي ولكنّني أحبُّ الأصدقاء، أغلبهم أصبحوا خارج لبنان للأسف والتواصل أصبح أقل، ولا يبدو إيجاد أصدقاء جدد قريبين مكانيّاً مهمّة سهلة، لكنّني أقضي أوقاتاً جيّدة مع الباقين منهم هنا، لا يمكنني أن أكون بعيداً جدّاً عن الكتابة عامّةً لأنّ الكتابة الصحافيّة الأدبيّة جزءٌ من حياتي المهنيّة، هناك أكون بعيداً عن الشّعر نسبيّاً، في الأوقات الأخرى أتابع كرة القدم ولا أتابع الأخبار، أحبُّ أم كلثوم وفيروز وأملُّ منهما فأهرب إلى وردة أو إلى خيارات موسيقيّة بعضها متطرف، أقرأ قليلاً وأزور السينما أحياناً، لا أحبُّ المقاهي، مهتمٌّ بالفنِّ التشكيليّ وأزور بعض المعارض رفقة الأصدقاء، أعيشُ حياةً هادئةً شبه روتينيّة، وأنتظر..
الأحلام دائماً كبيرة ومتجدّدة، الواقع في غاية السواد والطرق صعبة، يصبح السعيُ لتحقيق الأحلام في هذه الظروف مسليّاً أكثر أمّا الأمل فيعلو ويخبو، لا أنكر أنني تعرّضت لصدماتٍ متتالية وقاسية على مستويات عديدة في السنوات الأخيرة، وإن كنت حتّى الآن لم أحاول مغادرة البلاد بشكل نهائي قط، فإنه يصبح خياراً منطقيّاً يوماً بعد يوم للأسف، وأخشى أن أصحو ذات يوم فأجده صار ضرورة. حتّى ذلك اليوم الذي أرجو أن لا يأتي، سيبقى يحرّكني إيماني بنفسي وتمسّكي بهويّتي وحبّي لهذه البلاد المنذورة للرسالة المسكونة بالمعجزات منذ فجر التاريخ.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.