أحمد الفلاحي: الحياة مغامرةٌ مستمرة.. وأنا مستعدٌ لها

4 أكتوبر 2023

حاوره: هاني نديم

يضوع برائحة اليمن وحبه من غربته في أقصى الشمال، أنه الشاعر والمثقف أحمد الفلاحي الذي يشكل اليوم جسراً عربياً رائعاً بين ثقافتين ولغتين، العربية والسويدية، فهو صاحب مشاريع ثقافية عدة، تنشط بالتبادل الفكري والثقافي، وتفتح نوافذ بين آداب العالم. التقيته في تلك الدردشة عن اليمن والمشهد العربي عموماً، وعنه وعن حياته اليومية. سألته:

  • تنشط في المشهد الثقافي شاعراً وناشراً وفاعلاً في مجالات شتى، إن سألتك عن العناوين العريضة والملخص الأول لمشهدنا الثقافي كيف تصفه؟

الحديث عن المشهد الثقافي يحتاج إلى تناوله من نواح وأبعاد شتى، فلا يمكن الحديث عن الجانب الثقافي بمعزل عن البعد السياسي، الذي أصبح يسيطر على الجانب الثقافي ويرسم مساره بدلا من العكس. فالحديث عن ذلك سيطول وربما سنحتاج إلى مساحة أكبر، فضلاً على الإسقاطات السياسية والآراء التي يمكن أن تأخذنا إلى جدلية السياسي والمثقف، لذا سأتحدث عن المشهد الثقافي متجردا عن أي إسقاطات من شأنها ألا تضعني في دائرة تلك الجدلية.

سأبدأ بملخص أول للمشهد الثقافي ثم سأتظرق  لعناوين عريضة عقب ذلك. بإيجاز يمكن وصف المشهد الثقافي الراهن بالتنوع والتعدد في كثير من جوانبه، ففي مجالات الأدب والفن يشهد مشهدنا الثقافي تنوعا غنيا وأكثر انفتاحا، لكنه مع ذلك يواجه بعض التحديات المتعلقة بالاستمرارية وحرية التعبير والقيود على الإبداع في بعض البلدان العربية. كما تلعب الجوائز الثقافية دورا مهما في تشجيع الإبداع والأعمال الأدبية والفنية المتميزة، وتسهم دور النشر والناشرين في نشر الأعمال وجعلها متاحة للقراء والجمهور مع ما تحتذيه من طرق عدّة للكسب على حساب المؤلف. أيضا يشهد المشهد العربي تفاعلا متزايدا  مع داخله ومع المشهد الثقافي  الدولي، ويشهد تحولا ثقافيا ورقميا ملحوظا مع التطور التقني.

الانفتاح الثقافي ويظهر بواسطة الانفتاح والتوسع على الثقافات العربية والعالمية بواسطة تأسيس مراكز ثقافية وفنية مثل فروع لجامعات أجنبية في بلداننا، وتعاون مع جوائز ثقافية عالمية مثل جائزة الرواية العربية البوكر، وعربية مثل جائزة كتارا، جائزة الشارقة، جائزة اليونيسكو، جائزة الشيخ زايد وجائزة الكويت للتقدم العلمي التي حصدها قبل أيام الناقد سعيد يقطين، وغيرها من الجوائز التي تساهم في تعزيز التفاعل الثقافي العربي في اطاره الجغرافي ومع العالم.

الإنتاج الثقافي المتنوع يبرز بفضل غزارة الإنتاج الأدبي والفني، وتأليف الروايات والشعر والمسلسلات التلفزيونية بكميات كبيرة، مما يظهر التنوع والإبداع في مختلف المجالات الفنية والأدبية.

الجوائز الثقافية وكما ذكرت في فقرة الانفتاح الثقافي فالجوائز تلعب دورا مهما في تحفيز الكتاب والفنانين على الإبداع، حيث أنها أصبحت مصدر إلهام للكثيرين من أجل المشاركة الثقافية والأدبية، فهي باعتقادي تشجع على التنافس وتسهم في تسليط الضوء على المواهب.

التحديات الثقافية متعددة وتتعلق بمدى الفاعلية والاستمرارية  وبحرية التعبير والقيود السياسية رغم التطور والانفتاح اللذان أتاحتهما التكنولوجيا والتوجهات الانفتاحية لدى بعض الدول بواسطة الفعل السياسي، تلك التحديات تؤثر على حركة الثقافة والفنون في بعض البلدان العربية.

التواصل الاجتماعي والرقمي يلاحظ تقدماً رقمياً كبيراً في المشهد الثقافي العربي، حيث أصبحت الأعمال الأدبية والفنية متاحة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يسهل تواصل الجمهور مع الأعمال والفنانين والكتاب، هذه الآلية مكنت الكتاب من الانتشار السريع دون الحاجة إلى وسطاء.

التحولات الثقافية تشهد بعض الدول العربية تحولا ثقافيا يتضمن التشجيع على الإبداع والفنون وبناء مؤسسات ثقافية وفنية تسهم في تطوير المشهد الثقافي، يمكن اعتبار السعودية نموذجا جديدا لهذا التحول الثقافي والفني بعد التحول السياسي،نأمل أن يمتد هذا التحول الى بقية البلدان التي تعاني الانغلاق سياسيا وثقافيا.

العدالة الثقافية وأعني بها هنا المساواة والتعددية الثقافية انطلاقًا من التنوع الثقافي واحترام القيم، وتهدف هذه العدالة إلى تجنب التمييز والاستبعاد القائم على العوامل الثقافية. تظهر في المشهد الثقافي مشكلة عدم العدالة الثقافية، حيث يصعب على الكتاب والفنانين الجدد الوصول إلى الاعتراف والترويج لأعمالهم بسبب التفضيلات والتحيزات في بعض الأحيان نحو الأسماء المعروفة، فضلاً على الشللية والإخوانيات.

دور النشر تلعب دورا مهما في توزيع الأعمال وجعلها متاحة للقراء، مع موفرية النشر الإلكتروني الذي شكل فرصة للمبدعين وعقبة للدور. لكنها تواجه أيضا تحديات في البيع وقبول نشر بعض الأعمال دون غيرها وفقا لخطة ربحية، والاهتمام بالأعمال التي يمكن أن تمثل مصدرا ماديا ومعنويا للدار.

عموما، المشهد الثقافي العربي يمزج بين التنوع والإبداع مع التحديات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر على حركة الثقافة والفنون في المنطقة.

 

تتبنى مجلة “نصوص من خارج اللغة” إصدار بعض الكتب والدواوين الشعرية

 

  • كيف بدأت فكرة نصوص من خارج اللغة، وهل من فكرة لتطوير هذا التجمع؟ وبم تحدثنا عن سبكترا وطموحاتكم منها؟

تأسست مجلة “نصوص من خارج اللغة” كمشروع إبداعي فريد في عام 2017، ولكن فكرتها نشأت من صفحة على الفيسبوك بعنوان “نصوص من خارج اللغة” في عام 2015، كانت الصفحة تستخدم لنشر نصوص شعرية مغايرة لشعراء الموجة الجديدة التي تكتب نصوصا مختلفة. تطورت الفكرة لتصبح مجلة إلكترونية في أعدادها الأولى تهتم بنشر الأدب بمجالاته المتعددة. تحولت المجلة لاحقا إلى مجلة فصلية محكمة تصدرها شبكة أطياف الثقافية للدراسات والترجمة والنشر في المغرب، ونشرت ملفات شعرية وترجمات ودراسات تناولت مواضيع معينة تختارها إدارة المجلة، كما تسلط الضوء على شخصيات أدبية وقضايا مختلفة من منظور أدبي متجدد.

ذكرتُ في حوار سابق أن مجلة “نصوص من خارج اللغة” مثلت تجربة إبداعية مثيرة في عالم النشر الأدبي، حيث تبنت المجلة اصدارت بعض الكتب والدواوين الشعرية فقد صدر كتاب “الثمرة المحرمة” للدكتور حاتم الصكر وهو كتاب نقدي، تبع ذلك مجموعة من الإصدارات الشعرية مثل ديوان شعري للشاعر المصري أسامة حداد، وكتاب “أناشيد الغيمة المارقة” الذي أعده الشاعر مؤمن سمير، إضافة إلى كتاب مترجم عن الألمانية للدكتور رضوان ضاوي في العلوم الاجتماعية، وديوان شعري للشاعرة دليلة فخري “نكاية بالإستروجين” وكتب أخرى مثل مختارات شعرية للشاعر عبد الفتاح بن حمودة. سعت المجلة إلى تقديم محتوى إبداعي متنوع ومتجدد، وأقامت العديد من الفعاليات الثقافية، وعكست روح التفاعل الثقافي والأدبي بين الثقافات المختلفة.

بالطبع، هناك العديد من الأفكار التي يمكن أن تساهم في تطوير مجلة نصوص من خارج اللغة، إذ نعتزم استقطاب كتاب من لغات مختلفة فضلاً على توسيع التعاون مع منظمات ثقافية وزيادة التأثير الثقافي للمجلة، ثم أن المجلة تحتاج إلى إعادة هيكلة هيئة التحرير مع الحفاظ على العناصر الفعالة في المجلة. ولكي تستمر فإنها تحتاج إلى الدعم المادي والمعنوي.

أما مجلة “سبكترا” فهي مجلة أدبية فكرية تصدر في السويد وأمل أن تكون جسرا يربط بين ثقافتنا العربية والسويدية. نحاول فيها تقديما محتوى أدبيا وفكريا متنوعا يسهم في توسيع الفهم والتفاعل بين الثقافات. كما نعمل في المجلة على ترجمة الأعمال الأدبية السويدية إلى اللغة العربية لتمكين القارئ العربي من الاستمتاع بمختلف أشكال الأدب السويدي، وترجمة الأعمال العربية إلى السويدية ليتاح للقارئ السويدي الاطلاع على أدبنا بلغته.

 

 

  • حدثني عن صنعاء واليمن والبلاد البعيدة، عن علاقتكم معها مع الموسيقى اليمنية والمعمار والشعر والأدب.. هل ظلم اليمن ثقافيا واجتماعياً برأيكم؟

الحديث عن صنعاء واليمن سيطول ويحملني إلى مدارات التجلي، وأزقة صنعاء وحاراتها والمدن القديمة، وعندما أتحدث عن صنعاء بالأسطر القادمة أعني بذلك صنعاء واليمن معا.

صنعاء فاتنة، تأخذك بعيدا في رحلة زمنية مدهشة، تتنفس عبقها وتستفيء ظلها. إنها المتحف الحي الذي يظهر مرور الأجيال والحضارات على مر العصور، وأنت تجوب شوارعها الضيقة والمتعرجة وتلتقي بأبنائها، تجد نفسك عالقا بين عبق التاريخ وروعة الفن وحداثة العصر.

صنعاء تعانقك ببلاهة عاشقة، وحين تأوي إلى حضنها لن تأبه لك، عيونها مشدوهة إلى البعيد وقلبها معلق بالغرباء. العمارة القديمة و”الياجور” و”القليس” تعبر عن براعة اليمنى ومزاجه الديني والسياسي، حيث يمتزج الطين و”اللبن” ليخلق منهما مباني ساحرة تعبق بالجمال. هذا التصميم المميز للبيوت، والوعي الفني  وتنوع الأسواق فيها والبساتين تظهر انسجاما فريدا مع البيئة والطبيعة المحيطة بها. يتمشى المرء في أزقتها فتتراقص الأنغام على خطواته، كل حركة تمثل مقاما موسيقيا، وفي كل بيت نغمة ولحن. وأنا أتحدث عن صنعاء وهي “مقامات الدهشة” والشعر استحضر ما كتبه الشاعر أحمد ضيف الله العواضي وهو يتحدث عنها فيقول:

” من هنا ابتدأت تفاصيلُ الخليقة. ألفُ نافذةٍ على الدنيا. وبابٌ قُدَّ من ذهَبِ القصيدةْ. من رأى هذا المُخبأَ من حَنَان الأرض في حَجَرٍ على مبنى؟ لمجد الله يا بُنيانها المرصوص، يا هذا الفضاءُ من التألّق. مَنْ سِوى “الياجور” يختصرُ الطفولةَ “كعكة” الأحلام فاتحةَ الطلاسم والذهول. “

صنعاء، مدينة لن تموت، مع كل التحديات التي مرت بها عبر العصور وتمر بها الآن. إنها تقف بكل فخر شاهدة على تاريخ اليمن وحضارته. إنها تعيش وتتنفس بكل تفاصيلها وزواياها، مستعيدة دائما جمالها وروحها الفريدة.

أترنم مع أبو بكر سالم وأنادي: “أمي اليمن أمي، في داخل القلب حبك”

البلاد البعيدة، أن تعيش فيها وقلبك وروحك هناك، حتما سيأوي الفتى إلى اغتراب وموات. عشتُ في بلدان بعيدة عن اليمن وصنعاء، وامتزجت بها روح وثقافة، لكني أحمل وطني فيّ أينما حللت، أسمع موسيقاه وأغانيه كل يوم، لا يمر يوم دون أن أترنم مع أبو بكر سالم وأنادي: “أمي اليمن أمي، في داخل القلب حبك”، أعبر ريفه مع “السنيدار” مرددا: “ما أجمل الصبح في ريف اليمن حين يطلع”. أنا هنا في البلاد البعيدة وعينيّ على وطني، أفكر جديا بالعودة عند أول انفراج.

البلاد البعيدة

البعيدة جدا

يغادرها الحمام

الحمام الوحيد

الوحيد جدا

لا يأنس لصوت القنابل

 

 

الموسيقى اليمنية والعمارة والأدب والشعر هي عناصر أساسية من الثقافة اليمنية التي تعبر عن عراقتها وتراثها الغني والمتعدد. فالموسيقى مزيج فريد من الألحان والآلات الموسيقية التقليدية والأداء الغنائي. تتنوع الموسيقى اليمنية والغناء بتنوع مناطق اليمن، ويشمل اليمن على العديد من الأنماط الموسيقية والغنائية، فمثلا الموسيقى والغناء الصنعاني، التعزي، العدني، اللحجي ، والحضرمي وغيرها. لكل نوع سماته وجمهوره وأدواته وقدرته على التأثير والتأثر، تلك الخصائص والسمات تستمد روحها من الجغرافيا والناس، فهي تظهر ذلك على اللحن والغناء والأشعار.

الفن المعماري اليمني يشتهر بتصاميم معمارية فريدة وجميلة، أنه يمزج بين الأصالة والبساطة والجمال، إذ تستخدم المواد المحلية مثل الطين والياجور والحجارة في بناء المباني. تتميز المدن اليمنية القديمة مثل صنعاء وشبام حضرموت بمبانيها العالية، ذات طوابق متعددة يتم زخرفتها من الداخل والخارج، وتحتوي على نوافذ خشبية وفوقها عقود من الجص “القمريات” تتضمن قطعا من الزجاج الملون. المتتبع للعمارة في اليمن يمكنه أن يخلص إلى مدى اندماجها الفريد مع البيئة والبشر  ومع رؤية اليماني للعالم انطلاقًا من تصاميمه.

لحظة الكتابة تجعلني ألبس عباءة النص وأتوجس خيفة

الشعر والأدب لهما مكانة خاصة في الثقافة اليمنية، إذ يقدر الشعراء والأدباء في اليمن على الصعيد الشعبي والشخصي. الشعر اليمني يشكل مدارات متداخلة وفضاءات متصلة مع سياقه منذ البدء إلى وقتنا الحالي. كما له نفس الحساسيات التي ينضوي عليها الشعر في بقية البلدان، فهو يحمل الهم الإنساني واليمني ويتناول مواضيع متعددة مثل قضايا الحياة والحب والوطن والحرب. أما بالنسبة للأدب، فإن اليمن لديه تاريخ طويل من الأدب على مر العصور، إذ يشمل مجموعة من الأعمال الأدبية مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرح والمقالة والنقد والترجمة. الأدب اليمني يظهر تنوعا ثقافيا واجتماعيا، ويساهم في الحفاظ على التراث والهوية والتراكم الثقافي والمعرفي في اليمن.

ظلم اليمن ثقافيا واجتماعيا: اليمن بلد حافل بتاريخ ثقافي وتراثه الطويل الممتد لآلاف السنين، لكنه شهد تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية أثرت بشكل كبير عليه سياسيا واجتماعيا وثقافيا. هذه التحديات أثرت سلبا على الثقافة والفنون في اليمن، ولكن في الوقت نفسه، اليمن ما زال يرسم طريقه في كل ميادين الثقافة والأدب والفن، فهناك مجموعة من الكتاب والأدباء والفنانين المبدعين الذين يسعون إلى الحفاظ على التراث الثقافي والفني للبلد، وهناك من ينتج حراك جديد يتاخم الماحوله على صعيد الساحة العربية.

 

 

  • ماذا عن الفلاحي خارج الكتابة، كيف يعيش، وما الذي يبهجه ويحزنه، إلام يستمع وماذا يقرأ؟

لا أرني إلا نفسي خارج الكتابة وداخلها، لكن ربما لحظة الكتابة تجعلني ألبس عباءة النص وأتوجس خيفة، خارج الكتابة أجدني شخصا يمرر أصابعه في الماء، ويدخلها في جيبه فلا تخرج بيضاء، وعندما ألقي عصاي لا تلتقف وتظل كما هي، إلا أن تلك الأفعى تزاورني ليلا لتخبرني عن الشجرة المحرمة. أعيش يومياتي ببساطة، أستمتع بلحظاتي وأبحث عن الجمال في التفاصيل اليومية. أسمع الموسيقى وأقرأ كتبا متنوعة، أتصفح الفيس وأجمجم (ألايك) للأصدقاء. الحياة خارج الكتابة تبدو كمغامرة مستمرة، وأنا دائما على استعداد لاستكشاف ما تقدمه الحياة. أعيش الحب وأخلقه فهو وقودي وضوئي. في طريقي اليومي اسمع “أبوبكر سالم”، “وطالب القرغولي” و”ياس خضر”، أحيانا أعرج إلى المغرب وأرقص على “موسيقى الأطلس”، و”عبد الوهاب الدكالي” أردد معه ما أنا إلا بشر. ليلاً أتابع الأخبار وأتذكر “المتلاعبون بالعقول”، وحين أركن إلى الأدب والحداثة انظر اليهما بـ”المرايا المقعرة”.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.