في إقصاء الرسّامات – رانيا كرباج

27 نوفمبر 2023

رانيا كرباج – شاعرة وفنانة سورية

من المُستغرب أنّ الكثيرَ من الفنانين التشكيلين في مُجتمعاتِنا يقدّسونَ المرأةَ في أعمالِهم، و يعمدون إلى إقصائها على أرضِ الواقع، أتراهُ جزءٌ من الانفصام الذكوري الذي لا يقبل الأنثى ككائن مساوٍ له في القيمة و الجوهر، أم هناك أسباب أخرى ؟

فهي تارةً الأم المقدّسة التي وهبَتهُ الحياة و طوراً الكائن الأدنى الذي يحتاجُ إلى ضعفِه كي يبني برجَ سطوَتِه و قوّتِه. الغريبُ أيضاً أنّ العلاقة عكسية بين أرض الواقع و أرض الفن, و إلّا كيف نفسر الحضور اللافت للمرأة في فضاء اللوحة كرمز مقدّس للخصب و الأمومة و الجمال, و غيابُها, أو وجودُها المُقِل على الساحة التشكيلية كنَدّ أو شريك حقيقي.

وبالعودة إلى تاريخ الفن في اوروبا صاحبة التجربة في هذا المضمار, نجد أنّه حتى عصر النهضة كان الرسمُ مهنةَ الرجالِ فقط, أمّا القلّة القليلة من الفنانات اللواتي لمعَ نجمُهُنّ فقد كُنّ زوجات أو بنات لفنانين تدربنَ على الرسمِ بشكلٍ خاص, و لقينَ الدعم من مجتمع الفن الذكوري بسبب نسبهِنَّ.

إلى أن أصبح الانتساب للأكاديمية الملكية للرسم و النحت التي تم تأسيسها من قبل مارتن دي شار موا, مستشار الدولة في عهد لويس الرابع عشر,  مُتاحاً لكلا الجنسين. لكن, و بسبب الإقبال الكبير للإناث تم تحديد الرقم بأربعة, أربعة نساء يحقّ لهنّ الانتساب سنوياً للأكاديمية, تمّ لاحقاً كسر هذا الرقم بفضلِ نضال بعض الفنانات ذوات المواهب الفذّة, يُقال أيضاً أن المتاحف كانت مُغلقةً بوجهِ أعمالِ الفنانات, بغضّ النظر عن السوية الفنيّة.

لكن أتراها لوحة المرأة أيضاً عورةً لذا يجبُ سترَها؟ و هل نحن اليوم في القرن الحادي و العشرين نعيدُ التجربة الأوروبية ليس فقط عل صعيدِ الاستفادة من مدارسِهم و تجربتِهم في الرسم, و إنّما أيضاً على صعيد محاربتِنا للمرأة ككيان مُستقل من حقّه أن يعبّر عن أفكارهِ و هواجسِهِ بكل الأدوات التي منحَتهُ إيّاها الطبيعة, صحيح أن بعض النساء قد كُرّسنَ كفنّانات لكنّهُنّ من أصحاب المواهب و الإرادة الاستثنائية, أو أنّهُنَّ قد تلقّينَ الدعم على منوال التجربة الأوروبية من أب أو زوج أو عشيق, أمّا الغالبية العُظمى فقد تمّت “تصفيتُهُنَّ” في بداية الطريق, عليكِ أن تكوني تحتَ جناحَي ذكرٍ, أو ستُمنَعينَ من التحليق,والويل لمن لا يرضى عنها مجتمعُ الذكور, أفكّرُ أحياناً: كيف لرجُلٍ كبرَ على دونيةِ المرأة في المنزل أن يتقبّلَها لاحقاً كنَدّ أو شريك حقيقي؟ خاصةً في مجالات مثل الرسم و الشعر, حيث تقومُ في جانب منها على ملاحقة الوحي, و الوحي يجعل من البعضِ أنبياء, أنبياءُ الرسمِ و الشعرِ إذن لا يقبلونَ أن تدنّسَ أرضَهم امرأة.

 

أسأل نفسي

كثيراً ما كنتُ أُسأَلُ هذا السؤال باستغراب ” أنتِ امرأة و ترسمينَ نساءً؟” , لكن أليس من الطبيعي أنا المرأة الفنانة أن أعبّرَ عن نفسي, و أكتشفَ ما هو مؤنّث في عالمي الداخلي و العالم الخارجي. أتساءل هل يرسم الفنانون الرجال جسدَ المرأة لاكتشافِ ما هو مؤنّث حولَهم أم للتعبير عمّا هو مؤنّث في داخلِهم؟ لكن مع غياب المرأة كشريك حقيقي و فاعِل في حياتِهم, و أيضاً غيابَها كموديل حي على غرارِ التجربةِ الاوروبيّة, أتساءل ماذا يرسمون؟ أتراهم يرسمونَ تهيّؤاتِهم و أحلامهم فيما يخصُّ عالم الأنثى, فهي الجميلة النائمة الساكنة المُستكينة, الأم الحزينة المُستسلمة جسداً و الغائبة روحاً و فكراً. طبعاً ما أن تقومَ لتقولَ كلمتَها حتى ينهالُ عليها عشّاقُها و مُحبَوها و يحكمونَ عليها بالطعنِ حتى الموت.

أما تصوير المرأة المَحظية أو بائعة الجسد ليسَ دليلَ تحرّر إنّما هو شكل آخر من أشكال الإزدراء, فالجسد السلعة المُتاحة للرجالِ كي يتمتّعوا بها لا يقابلهُ عقلٌ أو روح أو إرادة حرّة من قبل المرأة, إنّها هنا كي ترضي غرائز البعض و نرجسيَتَهم.

 

لقد قامت الحركات النسوية في أوروبا بإعادة الاعتبار لفنّانات لامِعات كان قد أهمَلَهُنّ تاريخ الفن على اعتبارهِ هو الآخر نتاج ذكوري, أذكر على سبيل المثال لا الحصر, (1755-1842) Elisabeth Louise Vigee , التي لمَعَ نجمُها كأفضل رسّامات البورتريه في عصرِها, حيث كانت الفنان الوحيد( رجل أو امرأة), الذي سُمِحَ له برسم الملكة ماري انطوانيت, و(1593-1656) Artemisia Gentileschi ,رسامة ايطالية من عصر الباروك, تمّ اغتصابُها من قبل أستاذِها, وقد عاشت في فلورنسا و عرفت الشهرة عندما رسمَت عائلة Medicis الحاكِمة, مع ذلكَ التهمَها النسيان.

لا ننسى أيضاً  Camille Claudel ( 1864-1943) , عشيقة أوغست رودان و هي نحّاتة فذّة, عملت معه على إنجاز العديد من منحوتاتِهِ الشهيرة مثل القبلة, كما لا بدّ من ذكر Mary Cassate , (1844-1926) رسامة و نحّاتة انضمّت إلى مجموعة الانطباعيين لكن اسمها لا يذكر على المستوى نفسه كباقي الإنطباعيين. للمناسبة, لا أستشهد بالتجربة الاوروبية هنا من باب التقديس, فلكل مرحلةٍ صراعاتُها و لكلّ مجتمع خصوصيتُهُ. و لكن, على اعتبارهم سبّاقين في هذا المجال, فمن الحكمةِ أن نتعلّم شيئاً من تجربتِهم. إن نظرة واحدة على الفن و الواقع الأوروبييَن, منذ الفن الكنسي حتى عصر النهضة, تبرهن هذا التناقض الغريب و هذه الازدواجية, بين تقديس المرأة على قماشِ اللوحة, وإزدراءها على أرض الواقع.

السؤال الذي يطرح نفسهُ: هل المرأة اليوم أفضل حالاً؟ هل تحرّرت من قيدِ الأمومة الأبدي, و من تبعيتِها للرجل, و من كلّ التابوهات فيما يخصّ الدين و الجنس و السياسة, كي تصيرَ خالقة ليس على المستوى البيولوجي فقط, إنّما على الصعيد الإبداعي أيضاً؟ السؤال الأهم هل استطاعَ الفن على اعتبارِهِ قوة مُحرّرة, و رحلة يمشيها الإنسانُ صوبَ ذاتِه و صوبَ الآخر, أن يحرّرَ الرجل الفنان من نرجسيَتِهِ و من كل العقد الأخرى التي تحول بينَهُ و بين إنسانيتِهِ و بالتالي فنّه, لا يعلمُ الكثيرون أنّ قمّة الفن هي قمّة الإنسانية, تلكَ لا تستطيع بلوغَها بالعلاقات و المحسوبيات, و إنّما بالتحرّر من العقد و المُعتقدات التي تحولُ بين الفنان و ذاتِه الحرّة الصافية المُتألّقة, الفنُّ هو تحديداً تلكَ الذات تحاولُ أن تقدّمَ تجربتَها إلى العالم بما امتلَكَت من أدوات.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.