هشام شربتجي انطفأ في دمشق .. شكراً على كلّ شيء!

16 مايو 2023

وسام كنعان- دمشق

«شكراً على كلّ شيء… السلام لروحك» بكلّ هذه البساطة الموغلة في الأثر،  ينعي مدير الإضاءة والتصوير يزن شربتجي والده المخرج هشام شربتجي. والرجل باسمه وحده يحيلنا إلى آلة الزمن، لنستعيد محطّات مضيئة في تاريخ عامر ما بين 1948سنة الولادة إلى 2023 حين أغمض عينيه وانطفأ في دمشق، مشوار مسيّج بالمتعة، ومطوّق بالألق، ومحاط بالبهجة والضوء المشّع. الرجل كان يملك ختم شيخ الكار فعلاً. على نوله الحرفي  سبك أهم الأعمال وطرّزها كما يليق بمتلق متمرّس، لا تنطلي عليه ألعاب الخفة إلا من ساحر ماهر! في عام 2021 وفي شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) ضربته سكتة دماغية جعلته يدخل غيبوبة استفاق منها نسبياً، لكنّه ظلّ طريح الفراش إلى أن غادر. بتلك اللحظات أعادته الميديا السورية إلى مكانه الذي يستحق إي صدارة المشهد! لاحقاً ومع تفاقم المرض وغياب التحسّن صار محبيه وأصدقائه يتمنّون له الراحة الأبدية للتخلّص من عذاباته. ما إن انتشر الخبر حتى اندلعت السوشال ميديا السورية، ودخل نجوم الفن على الخطّ بدءاً من ياسر العظمة الذي نعى شريكه ورفيق دربه، تلاه أيمن زيدان الذي اعتبره صانع البهجة الأوّل، ثم السيناريست نور الشيشكلي كونه كان عرّبها والكاتب مازن طه ونجوم من وزن باسم ياخور وشكران مرتجى وآخرون. على كلّ الأحوال كان هشام شربتجي ميّالاً في العقد الأخير للابتعاد عن الظهور الاعلامي بسبب الدماء التي كانت تجري في سوريا! اختار لنفسه عزلة قسرية وانكفأ عن عروض الشركات وفضّل أن يمضي حياته بهدوء لا ينقصه صراحة فجّة وهي سمته الدائمة!

وسط فخامة مكتبه وتصميمه الجميل، التقيناه مرّة. لإجراء حوار فكانت  عيناه تغزلان بوحاً وشعوراً ربما بالحزن! حينها كان يستشرف: «الخراب الذي سيكون مصيرنا إذا استمرت الأمور على هذا المنوال». وهو ما حصل فعلاً عاد يومها بنا إلى مراحله التأسيسية التي لمح فيها كلّ من عرفه موهبة خاصة وقال: «حياتي كلها محطات مضيئة… أذكر جيداً أنني خبرت الشهرة والنجومية منذ الطفولة عندما فزت في مسابقة أفضل مصوّر ضوئي التي نظّمتها الأمم المتحدة لأطفال العالم». في ذلك الزمن، لم تكن الدولة تهتم بالمواهب. وظل فوزه بهذه الجائزة ذكرى من ذكريات طفولته، وعنوان رغبة مكبوتة.

وسط عائلة نموذجية قوامها ثلاثة أطفال عاش هشام، واختزنت ذاكرة طفولته الكثير من الحكايا والأساطير في منطقة المهاجرين في دمشق، وفي حي الأولياء الذي سمي كذلك لأنّ غالبية البيوت كانت تحوي قبراً لأحد الأولياء الصالحين. وظلت العاصمة السورية ملهمة مخيلته، هو الذي ولد خارج سور دمشق القديمة. كان يرافق والده الحلاق إلى محله في باب الجابية، ويسمع قصص الناس وحكاياتهم. وقد تلقف بشغف أخبار الثوار الذين كانوا يناضلون ضد الاستعمار الفرنسي. ومن خلال معرفته العميقة بدمشق، يرفض المخرج السوري: «كل الكذب الذي قدمته الدراما السورية عن دمشق، بما في ذلك ما قدمته أنا، لأنّه زيّف الواقع الذي كانت تعيشه العاصمة تلك الأيام».

لم يخطر في باله يوماً أنّه سيدخل الوسط الفني رغم موهبته التي ظهرت باكراً. كان يريد للفن أن يبقى هواية، وتمنّى أن يمتهن الطيران ليجوب السماء، على أساس أنّ ذلك هو التعبير الأبلغ عن الحرية. وبالفعل، حاز الشهادة الثانوية وسافر إلى مصر ليدرس في «معهد إمبابا للطيران»، إلى جانب انتسابه إلى أكاديمية الفنون. لكن النكسة دمّرت المعهد، وصارت دراسة الطيران صعبة جداً في ذلك الوقت. هكذا لم يعد أمامه سوى التفرغ للفنون، ودراسة الأدب المقارن. ثم شاءت المصادفات أن يتجه نحو الإخراج، بعدما عُيِّن مخرجاً في إذاعة دمشق.

بمشاركة الإعلامي نذير عقيل، أسّس شكلاً جديداً من أشكال الدراما الإذاعية الناقدة، جعله اسماً معروفاً رغم عمله في غرفة الكونترول. بعد ذلك، انتقل بهذا النوع من الدراما إلى التلفزيون بدعم من الإعلامي المخضرم فؤاد بلاط. وهنا، انطلق بعمل يشبه شكل الدراما التي قدمها «مسرح الشوك»، «قصاقيص». لكن بدايته الفعلية كانت عام 1981، عندما أطلق مع الكوميدي ياسر العظمة الجزء الأول من المسلسل الكوميدي النقدي «مرايا». لاحقاً سيخرج أجزاء عدّة من هذا المسلسل، بعد ذلك برع شربتجي في تقديم مجموعة من أهم الأعمال الكوميدية بدءاً بـ«أحلام أبو الهنا» مع دريد لحام، وانتهاءً بـ«يوميات مدير عام»، مروراً بالعديد من الأعمال المهمّة التي جعلته يحوز لقب «أبو الكوميديا السورية».

يرى هشام أنّ الكوميديا لعنة أصابته عندما نجح في تقديمها، ويعتدّ بأعماله الاجتماعية أكثر. وبالفعل، حققت مسلسلاته الاجتماعية قبولاً واسعاً لدى الجمهور وأسهمت في صناعة نجوم سوريين، خصوصاً مسلسلي «أسرار المدينة» و«أيامنا الحلوة» اللذين كتبهما حسن سامي يوسف ونجيب نصير. الميزة التي لا يعرفها عنه غالبية المخرجين الشباب بأنه يصوّر المشهد على ثلاث دفعات اوّل مرة برفة صوتية يلتقط فيها إحساس الممثل ويمهّد الطريق أمامه للدخول في الحالة ولو كلامياً مستفيداً بذلك من تاريخه الطويل في الإذاعة ثم بروفة صوت وحركة، يليها التصوير النهائي، فيما يفيد العاملون معه بأنه كان بنفق كلّ أمواله على اقتناء الكاميرات ومواكبة التكنولوجيا والاطلاع على أحدث صيحات المهنة التي تتطور بشكل متسارع وبطريقة مخيفة، إذ لا يمكن لمخرج أن يستمر إذا لم يواكب بهذا الشكل!

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.