“هذا الألم الذي يضيء -قصائد أحببتها” – صور شعرية مرادفة للموسيقى والتشكيل

13 يناير 2024
نص خبر – متابعة
كتب د. عثيل هاشم عن مختارات أخيرة نشرت للشاعر العراقي الكبير عدنان الصائغ، حيث قال: في مختاراته الشعرية الأخيرة التي حملت عنواناً رئيساً هو «هذا الألم الذي يضيء»، مشفوعاً بعنوان فرعي يصف المجموعة بأنها «قصائد أحبها الشاعر»، يخوض الشاعر عدنان الصائغ تجربة شعرية رؤيوية جديدة، موضوعها تنوع بين مشاعر الوطن –الحب-الغربة-المرأة –الوحدة. لكنه في هذا العمل الجديد يقترح عالماً شعرياً مركباً يضع قارئه في حالة من التأمل والتساؤل، ذلك التساؤل الذي يبدأ من عنوان الديوان الذي يصف اضاءة الألم، شارحا فلسفته للألم ومعاناته منه.
د.عقيل هاشم
ثم يذهب الشاعر بمغامرة استعارته لفلسفة الالم، وهذه القراءة محاولة لدخول هذا العالم الشعري المختلف في رؤيته وصوره ولغته.
الشاعر عدنان الصائغ المتأمل بروحه في الكلمات وفي الحياة وأحاسيس الإنسان المتأمل في البعيد، يجسد هذا في جامع دواوينه –قصائد قريبة من قلبه «هذا الالم الذي يضيء» الذي يحتوي على أجمل ما سطرته تلك الدواوين، فيها الكثير من الجميل والمدهش والمبهر أيضا، تتشكل فيها الصور على شكل لوحة تشكيلية بلغة شاعرية، فالنص الشعري لدى الصانع كأنه لافتات من ثنائية الحب والموت معا لتكشف عن مضمونها الذي يتناسب مع انسيابية الفكرة وموسيقية الكلمات.
“عندما الأرضُ، كوَّرَها الربُّ بين يديه
ووزَّعَ فيها:
اللغاتِ، النباتَ، الطغاةَ، الغزاةَ،
الحروبَ، الطيوبَ، الخطوطَ، الحظوظَ، اللقا….
والفراقْ…”
ينتمي الشاعر عدنان الصائغ إلى جيل الثمانينيات الذي أسس ركائز قوية للقصيدة المعاصرة والمغايرة اسلوبيا، ثم يهاجر مع أبناء ذلك الجيل إلى المنفى، بعد أن عصفت بهم الظروف السياسية. وقد أثبت الصائغ حضوره في المشهد الشعري العربي ومنذ كتابته للقصائد التي تنتظم مع اجواء القصيدة الرؤية ضم قصائد شعرية مختلفة في الشكل، ما بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر ..
وهذا الكتاب الجامع لمختارات شعرية احتوى :
– من ديوان “و..”
– من ديوان “تأبط منفى”
– من ديوان “تكوينات”
– من ديوان “تحت سماء غريبة”
– من ديوان “غيمة الصمغ”
– من ديوان “مرايا لشعرها الطويل”
– من ديوان “سماء في خوذة”
– من ديوان “العصافير لا تحب الرصاص”
– من ديوان “أغنيات على جسر الكوفة”
– من ديوان “انتظريني تحت نصب الحرية”
– من ديوان “نشيد أورك”
– من ديوان “نرد النص”…
صدرت في بريطانيا، عن دار لندن للطباعة (هذا الألمُ الذي يضيءُ)؛ مختارات شعرية للشاعر عدنان الصائغ بـ 375 صفحة، في طبعة ثانية، جديدة ومزيدة – تموز/جولاي 2023.
ضمت المختارات 116 قصيدة من مجمل تجربته الشعرية الممتدة لأكثر 40 عاماً،
هذه المختارات المنتخبة التي أمامنا فيها الكثير من الألم واللوعة والشجن، فالشاعر له حاسة فريدة أمام الألم والذكريات – الامكنة والوطن والانسان، التي يتخيلها الشاعر ليصور لنا المشهد بهذه الدقة وبهذا الجمال المؤلم الذي ينثال من أحرف قصائده.
“في الحانة
كانتْ بغدادُ، خيوطَ دخانٍ تتصاعدُ
من أنفاسِ الجلَّاسْ
وأصابع عازفةٍ، سكرى
تتراقصُ بين الوترِ المهموسِ، وبين الكاسْ”
وهذا المغترب حين يعود من رحلته الى بلده – العراق – يصطدم فيكتب قصائده بريشة فنان مولع بالفن يتحدث عن مشاهداته للخراب والدمار الذي عم وطنه العراق فبعد رحلة طويلة جاب فيها كل مطارات العالم، وبعد كل سفرة حين يعود من منفاه فيرى الإهمال والفقر والجوع، فأصبح العراق –الحضارة والثقافة للشاعر يوصف بالرجل المريض، فيحدثنا بصدق عن الوطن والمنفى والألم. في صورة مبهرة، يجعلنا نتساءل لماذا يحرك فينا الشعر كل هذا الحنين الجارف؟ وهذا وعد الشعر الذي ينجزه والذي يماثل لوحة جميلة تتكامل مفاتن القصيدة.
لاسيما كون الشاعر هو صنيعة سياقه الإنساني، وظروفه. وينسخ لنا ما يراه وما يشد انتباهه، هي محفزات وحوامل دلالية تشحن بأحاسيس الإنسان، وتحشى بمادة الخيال التي يبرع الشاعر في هندستها وإنتاجها، لتكون نسغ المتعة فيها
ذاك هو ما يحصل مع الشاعر الصائغ، هو الفارس الذي ظل ممتطياً جواد خياله الجامح، وأحاسيسه المفعمة بقيم الجمال والنبل والصفاء، حاملا معه أشواقه، ولواعجه وذاكرته الشعرية.
“ها أنتَ تطوفُ العالم
ها أنتَ تطوفُ لوحدك
ها أنتَ تنوحُ على ما مرَّ
تناسَ المرَّ
تناساكَ المارون
فما تنظرُ أو تنتظرُ”
إن صورة المرأة في الغربة لا تفارقه، بل في مخيلة الشاعر والتي لا تشبه كل صور النساء المتخيلة، وأن الشاعر- الإنسان المغرم بصور الجمال هو من يسكب فيها معانيه وتجلياته ومشاعره طبقا لما يختلج في سريرته، فهي الأقرب إلى الذات والقلب والوجدان.
فالشاعر ينظر إلى المرأة من وجهة نظر جمالية، فكلما غاب البهاء عن المدن لجأ اليها فيطلق صرخته الشعرية مستنجدا، داعيا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه
فيلجأ الى الشهر متكئا على استعاراته، ومجازاته، ولغته الرشيقة
“يموسقُني صوتُها حين ينداحُ
– هل تتقنُ الرقصَ…؟
– لا
رقَّصتني القذائفُ
ذاتَ الخبالِ… وذاتَ الخببْ
أنا شاعرٌ دارَ بي زمني.. واستدار”
قصائد نسجها عبر لغة شعرية تتماهى بظل موسيقاه لتحويل الشعر إلى إشارات،
احالات فنية في الكتابة أسراره جلية من أجل الكشف عن رؤى مختزنة أثقلته، عناقيد من الألم تعصره، ليكون صدى الشاعر العاشق لخمرة سكونه المرعوب مما يأتي،
سترى وطنا محترقا، وشاعرا وحيد تجاوز فضاءات الامتثال أمام منصة اللامعنى كان ملزما بأن يعيش مشحونا بالأسئلة التي تؤرقه، وهكذا هو الشاعر ظل مخنوقا بمفردة الوطن
أما على مستوى الشكل الأجناسي وعوالم التخييله نلاحظ أن قصائده مشحونة بما يملأها ويشحنها ويعبئ إنشائيتها وجمالياتها من هذا العالم الذي ينهل منه متفاعلا مع ما ترسخ في الذاكرة من وقائع ومشاعر وفضاءات، إذ يمنح الكتابة الشعرية نوعا من التنوع الأجناسي بالشكل والموضوع معا، محاولا توسيع المساحة الجمالية بين النص والمتلقي.
ولعل تكثيفها وتدقيقها يلفت الانتباه فهي مذيلة بتواريخ دقيقة تحيل إلى مرحلة الكتابة ومحطات مهمة في حياة الشاعر، وهي كذلك تحمل أسماء أماكن ترتبط بحياة الشاعر ومحطاته. مشحونة بمعاني ودلالات تحملها هذه القصائد. ولعل بوسع القارئ النفاذ إليها من خلال ما في العتبات من إشارات، ففي العناوين الداخلية حضور للذاكرة وللرسالة ولليوميات فتصبح القصائد كتابة للذات وما يخالجها من التوثيق. وهي تبدو كذلك رسما لعوالم الشاعر وتفاعله مع لحظة تدوين القصيدة…
“نثيثُ الثلجِ
على نافذةِ منفاي
رسائلُ متجمدةٌ وصلتني من هناك
هكذا خُيِّل لي
بينما ساعيةُ البريدِ على دراجتها الهوائيةِ
تشيرُ أن لا رسائلَ لي اليوم…..31/12/1996″
إن هذا التدوين يتطابق مع لحظة حضور اللحظة الشعرية نفسها برغبتها التي لا تهدأ، عبر صيرورتها وحلولها في الكلمات، حتى تكون هي ولا يكون غيرها، لحظة تغنيك وكأنها كل شيء، لحظة نمسك بنشوة تلك اللحظة المضيئة التي تلقى فيها الكلمات والأفكار معا.
هذا التأنق ينبئك عن شاعرية الشاعر الصائغ، لذا جاءت قصائده آسرة غنيّة باختلافها وتنوّعها وبعمقها الفكري وقوتها الانفعالية وجمالها، تشير إلى ما هو مدهش في علاقته بالوجدان الإنساني وبالجمال بالرغم من الألم والمرارة، الذي ينبع من ذاته، فهو يمتلك لغة شعرية تأثيرية فائقة التعبير ..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.