مشنوقاً بأشجاره

جهينة العوام – صحافية وكاتبة سورية

ذلك الرجل الذي قضى عمره بزراعة أشجار الطيبة انتهى به الأمر مشنوقاً على أحد أغصانها وعلى مرأى منا جميعا، بينما كنا غارقين في مناظرات علنية وسرية لدراسة ما جرى تلك الليلة.

حين اعتدى عليه جاره بالضرب، لأنه كان يستيقظ باكرا ويبدأ العناية بحديقته الخضراء، مقلقاً راحة الجار (الذي لا يخاف الله) هذا ما كان متداولا في (الحي) للإشارة إليه، وهو ما عالق بذاكرتي منذ أكثر من 40 عاما. انتهى الخلاف بين الجارين الى قاعة المحكمة ، وحين سأل القاضي الجار عن سبب ضربه لجاره والاعتداء على اشجاره أجاب: إن جاره كان يتلصص على زوجته !

سمعت الرجال في دكان والدي يرددون الحادثة، وانهم انصعقوا جميعاً، وأن (رؤوف) تجمد في مكانه ثم سقط أرضاً، بعدها وقف ثم تأمل الحاضرين في القاعة، بدا كأنه يعاني ضيقا في التنفس، ظل يروح ويجيء، ثم خلع جاكيته وبنطاله وصار يصرخ، ثم خرج من باب المحكمة والحياة معا.

رؤوف الذي عرف النكبة والنكسة والفقر والقحط، عجزت روحه عن استيعاب تهمة بدت أكبر بكثير من طاقته على التدوير والإيمان والصبر والحكمة. قفز عقله هاربا رافضا أي تعليق، وصرع الخذلان روحه الهشة التي جبرت انكساراتها السابقة بالاتكال على الله تارة وتارة بالرضى والتسليم، بدت هشة متهالكة وهوت في أول نزال علني حقيقي، لم تستطع الإفلات من مخالبه ولا تفويض أمرها لباريها.

بثوان قليلة غرقت برضوضها وخوفها القديمين، وكان عتبها للحياة كبيرا على قدر الذي أهدرته كل تلك السنين، الحب الذي كان بانتظار كلمة أو شهادة حق، أو معجزة وربما قرصة مؤلمة تبعد هذا الكابوس عنه. بعد موته المعلن كانت أهل الحي يذكرون تلك الحادثة ،وبتواطؤ مريب يبحثون في الأسباب الوراثية أو المرضية لجنون رؤوف ، كان كل واحد يقذف بمشاعر الندم والذنب باتجاه أكثر راحة وسلام تيمناً بعباقرة التنمية البشرية . اليوم وانا اتابع ما جرى للطفل الذي دفع حياته تمنا لمشهد تمثيلي لصالح التيك توك ،،تذكرت أبو رؤوف ، ثمة أرواح في هذا العالم لا تحتمل الرداءة، لا تقوى على مواجهة الواقع والإقرار بأن الدنيا ليست بألف خير ، وأن من بإمكانهم اعتياد الخوف والدم والألم والعهر، ليس لديهم من الحمق ما يكفي لالتهام ظلالهم والتظاهر أنهم بخير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.