ابراهيم داوود عن مجدي نجيب: المحبّة تقوّي جهاز المناعة

7 فبراير 2024

ابراهيم داوود – شاعر وصحافي مصري

المحبة تقوى جهاز المناعة، إلى جانب الشمس والألوان الزاهية والإبتسامة الصافية، وهى العناصر المتوفرة فى شخصية وسيرة ومنجز الشاعر والفنان التشكيلى الكبير مجدى نجيب، الذى أتم أول أمس عامه الرابع والثمانين وهو فى كامل أناقته الروحية.

ينتمى شاعر الأغنية الجميل الى فصيل من البشر تبعث سيرتهم الطمأنينة، لأنهم بذلوا أعمارهم فى نشر الأريج والخير، فصيل لم يتورط المنتمون اليه فى علاقات تنال من نقائهم، أو الى ما يحلمون به من أجل الإنسانية ووطنهم، هو أقرب الى أرواح حجازى الرسام وعلاء الديب ومحمد روميش وعبد الفناح الجمل ومحيى الدين اللباد وحسن فؤاد، أقرب الى سير المتصوفة الذين لم يتعاملوا مع الحياة على أنها صفقات صغيرة متجاورة مشبعة.

ديوانه الأول “صهد الشتا” والذى صدر سنة 1964، أشار الى صوت مستقل، يسعى الى استثمار العامية القاهرية في زراعة مساحة جديدة داخل بستان شعر العامية العفى، والذى كان يغرد فيه صلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودى وفؤاد قاعود وغيرهم من الذين حملوا راية التجديد بعد بيرم التونسى وبديع خيرى، حين عرض عليه الموهوب الكبير التعاون معه، خاف مجدى نجيب على الشاعر الذى بداخله، لأنه كان يعتقد أن كتاب الأغنية أدنى منزلة من الشعراء، لأنهم أسرى آليات السوق ، وهو تصور خاطئ بالطبع، ويؤمن به كثيرون حتى الآن، لأن كتابة الأغنية تبدو سهلة، ولكن البساطة واللماحية والقدرة على التعبير عن المشاعر الخام مهمة ثقيلة لا يمكن التصدى لها إلا من خلال شاعر موهوب.

مرسى جميل عزيز على سبيل المثال ترك فى الغناء الحديث شعرا غزيرا مؤثرا فى مسيرة فن الشعر، ويعرف قدره الذواقة العتاة، وبالطبع عبد الفتاح مصطفى العظيم وفتحى قورة ومحمد على أحمد ومأمون الشناوى وعلى مهدى و صلاح جاهين والأبنودى وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وعبد الرحيم منصور، وعشرات من الذين ظللوا حياتنا بالعذوبة والرقة والنقاء، قدم نجيب مع بليغ وشادية أولى أغنياته ” قولوا لعين الشمس” سنة 1966، وحققت نجاحا باهرا، وحدث جدل حولها، بعد أن هاجمها الشيخ كشك فى شرائطة الكاريكاتيرية متهما كاتبها بالزندقة، لأنه لا سلطة له على الشمس لكى يقول لها ” ما تحماش”!، شادية أعجبها هذا اللون، وشجعها النجاح وكتب لها الأبنودى فيه “آه يأسمرانى اللون” و”قاللى الوداع”.

غنى له عبد الحليم حافظ ” كامل الأوصاف” لحن محمد الموجى وكان يسعى من خلاله الى إعادة صياغة الموشح على مزاج المصريين، وهو اللحن الذى دفع فايزة أحمد الى طلب “العيون الكواحل” التى لحنها محمد سلطان ونجحت هى الأخرى وتسببت فى القطيعة بين الشاعر وحليم الذى كان يطمح فى هذا اللون لنفسه فقط، وأصبح مجدى نجيب شاعرا يسعى اليه نجوم الستينيات.

لحن له معظم الملحنين، رياض السنباطى بليغ والموجى وسلطان ومحمود الشريف ومنير مراد وأحمد منيب، ولم يعمل مع محمد عبد الوهاب لسبب غريب ووجيه، طلب موسيقار الأجيال من أحمد فؤاد حسن المجئ بمجدى نجيب، وذهبا معا وأبدى الملحن العظيم أعجابه بما يكتب، وجلسوا الثلاثة الى مائدة الطعام، وبدأت مديرة المنزل تقدم الأطباق لصاحب البيت واحدا تلو الآخر وهو مستمتع بتذوق الطعام ولم تقدم للضيفين شيئا، فى الوقت الذى كان فيه شاعرنا ميتا من الجوع، خرج من هناك وفى قرارة نفسه أنه لن يتعامل معه مهما حدث بسبب هذه الواقعة.

غنت لمجدى نجيب معظم الأصوات، شريفة فاضل غنت له من ألحان منير مراد “لما راح الصبر منه”، و”دور لف الدنيا بحالها” ، وغنت له نجاة الصغيرة ووردة ومحرم فؤاد وعفاف راضى ومحمد حمام ومحمد ثروت ومدحت صالح وعماد عبد الحليم وسميرة سعيد، وكان له دور كبير فى مسيرة هانى شاكر بدأت ب “ياريتك معايا” و “سيبونى أحب”، وأيضا فى مسيرة محمد منير، بدأت ب”شبابيك”و “حواديت” ,”ليلى”،”من أول لمسة”، ومن الصعب حصر كل أعماله، ولكن من المؤكد أنه صاحب صوت خاص ونوعى فى الغناء المصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين، صوت قريب الى نبرة عبد الرحيم منصور الحميمة، والشاعران جمعهما الإحساس الفطرى بالكلام والأهم معرفة احتياج الناس الى الجملة البسيطة النافذة الخالية من الشحوم البلاغية أو الإستعراضية، لم يكتف نجيب بكتابة الأغنية، وواصل نشر دواوينه التى احتفى النقاد بها، فأصدر ليالى الزمن المنسى، مقاطع من أغنية الرصاص، ممكن، الوصايا، حبة ملح .. حبة سكر، وش يشبه حزننا، وبالإضافة الى عدد من الكتب المهمة مثل صندوق الموسيقى وأهل المغنى (عن الفن الشعبى).

عمل مجدي نجيب الصحافة ويعتبر من “أسطوات” الإخراج الصحفى، وله إسهامات عظيمة فى مجلات: كروان وصباح الخير والكواكب والإذاعة والتلفزيون والمصور وكل الناس وغيرها من المجلات، الى جانب اسهاماته فى الرسم للأطفال، واذا قدر لك مشاهدة لوحاته الفنية، ستجد نفسك أمام طفولة زاهية الألوان، حيث الأشجار والطيور ومواكب الدراويش وأفراح القاهرة المنسية، أنت أمام كرنفال بشرى تعزف النساء على وتريات من أزمنة بعيدة، تلعب الأسطورة دور البطولة، منطقة بين الفانتازيا والواقعية، مجدى نجيب الصديق المبهج النقى فنان فى كل أحواله، لم يتوقف عن العمل والإبداع لحظة فى حياته ..متعه الله بالصحة والعافية.

*(نشرت بالأهرام منذ سنوات ونشرها الشاعر ابراهيم داوود اليوم مع وفاة نجيب)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.