زياد عبدالله عن بندر عبدالحميد: آمالنا في دمشق المنكوبة

19 فبراير 2024
زياد عبدالله – كاتب وروائي سوري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يصادف اليوم مرور أربع سنوات على رحيل الشاعر بندر عبد الحميد (1947 – 2020) لروحه النبيلة السلام. أعيد هنا نشر مقدمتي لمختارات من شعره بعنوان “في الطبيعة العارية الإنسان هو المقنّع الوحيد” نشرت في العدد الرابع من مجلة براءات التي تصدّرها منشورات المتوسط:
نعم! لقد اخترت قصائد لبندر عبد الحميد! ولعل اعترافي بذلك، مذيلاً بأدلةٍ دامغةٍ ومدوّخةٍ من قصائده، قد توهمكم بأنني ارتكبت ذلك عمداً أو في الخفاء، لكن ذلك غير صحيح، فقد تم الأمر عبر انخطافة في الزمن، خلف الأبواب المشرعة، وفي صباح مشرق تهيمن عليه الطيور والفراشات، يتبادل فيه العشاق القبلات في الحدائق العامة، وتواصل فيها الأنهار تدفقها بحرية، وقد وضعت الحروب أوزارها، واندثر الطغاة، وعلا الرقص والغناء.
نعم لقد تم الأمر في هكذا يوم سادته شعرية بندر عبد الحميد وقصائده، وهي تنتصر للحياة والحب والجمال، من دون أن تدع لصراعها مع القبح والقسوة والظلم أن تمسها بسوء أو أن تخلّ باشراقها، بترقرقها، وسلاستها. إنه عالم شعري وضّاء لا يدخله إلا من يوقن بجمال هذه الحياة، بقيمتها، بقدرتها على اجتراح المعجزات من العادي واليومي، والإيمان بأن لكل إنسان سر ومعجزة:
هذه الوجوه المخطوفة
في الشوارع المزدحمة
هذه الرهائن الصامتة
تحمل أسراراً ومعجزات
لكل رجل ـ لكل امرأة
سر ومعجزة
أن أحبك فهذا سر
وأن نعيش في زمن واحد
معجزة.
ولعل فيما تقدم إضاءة على مقاربتي عالم بندر عبد الحميد الشعري، وبالتالي منابع الاختيارات، وأنا أستعيد أول قصيدة قرأتها له حين كنت في الثاني ثانوي في قاعة المطالعة في المركز الثقافي العربي في اللاذقية، وقد كان الطلاب والطالبات والقراء والقارئات بالكاد تستقر أعينهم على الكتب المفتوحة أمامهم، يتبادلون النظرات ويتغامزون وما إن يكلّم شاب فتاة حتى تخرج المشرفة على القاعة بنظاراتها السميكة وتصرخ “هس هس”. في هذا الجو تماماً كنت قد استعرت مجموعة بندر عبد الحميد “احتفالات”، فتحتها فإذا بقصيدة “زهر” تخرج عليّ وتستولي على المكان، وتتحول إلى تجسيد لما يسوده من حب وعشق:
ما حدث أخيراً
هو أنني أكره الزهر
ثمة عداء شخصي
بيني وبين الياسمين
منذ أواخر العام الماضي
لقد كان شاهداً
على جرائم الشفتين!..
استوقفتني كثيرا تلك المزاوجة بين مناصبة الياسمين العداء، وكل ما أقدم عليه الزهر هو تحوله إلى شاهد على جرائم اقترفتها الشفتان، يا لها من جرائم! ويا له من مكان تواجد الياسمين فيه يجعله مسرحاً مثالياً تكتمل في ظلاله وأريجه أركان جريمة عشق كاملة.
وحين قرأت:
القبلة على الخد
والقبلة على الصدر المفتوح
والقبلة على الشفتين
قبلة البدو
وقبلة الاسكيمو
لغة يعرفها الأطفال جيداً
ويتذكرها الشيوخ
لا قاموس للقبلة
لأنها فراشة
تتغير ألوانها دائماً
وتطير بفرح
بين النوافذ المفتوحة
وحقول الرمان
كنت سألقي القصيدة على الملأ، موقناً من أن مشرفة القاعة لن تقول “هس هس..”، ولن يأبه الطلاب والطالبات لرقابتها الصارمة، وبدلاً من أن يتبادلوا القبل في الأزقة والزوايا المعتمة، سيقدمون على ذلك في القاعة، بحيث تصبح الكتب شاهداً على جرائم الشفتين.
في هذا التجسيد لقصيدة بندر، محاولة استدعاء لعوالم شعره، وهو يطالبك بالجمال والحب والرقص والفرح، أو كما هي ابتسامته التي بالكاد لمحتها حين قرأت عليه “زهر” في لقائي الأول معه في دمشق بعد 16 عاماً من قراءتي لها. الابتسامة كانت ردة فعله الوحيد، وفيها ما يمتد إلى معايشتي له في لحظات بهية وجميلة كثيرة، كنت أسأله عن شعره، فيقول لي باقتضاب إنه يكتب أو “يخربش”، ولتهيمن السينما على أحاديثنا، وأعتقد أن أكداساً من القصائد والنصوص ما زالت حبيسة أوراقه ودفاتره في غرفته الشهيرة (مأوى من لا مأوى له) في شارع العابد بدمشق.
بندر عبدالحميد
معايشتي لصمت بندر الشخصي حيال تجربته الشعرية، التي شكّلت في سبعينات القرن الماضي مع تجارب أخرى انعطافة قصيدة النثر في سورية، التي انحازت لليومي والمعاش، وابتعدت عن التجريد، وغاصت في حيوات البشر، يقود إلى اعتبار هذا الصمت أيضاً أسلوباً في شعره، فالحياتي والمعاش يحضر بين السطور كمرجعية، بينما يحتل المتن ما ترتب عن هذا المعاش، وما يبنى عليه، في إصرار على إزالة كل الأقنعة، في تناغم مع قوله “في الطبيعة العارية الإنسان هو المقنّع الوحيد”، وعليه فإننا نقع في قصائده على الإنسان في الطبيعة العارية وقد نزع عنه قناعه، وغالباً ما يكون الحب هو الدافع الأسمى لقيامه بذلك، متنقلاً من كشف إلى آخر تتولاه البساطة، وليبرع بندر في تحويل الشخصي إلى ذاتي، حيث لشذرات حياته المتوزعة على القصائد، ألا تفصح عن نفسها لأنه خاضها أو عاصرها، بل لأنها تضيء على مفارقة وجودية أو واقعية أو نفسية أو عاطفية، ولصوغها شعراً أن يستبعد أي تورية أو حتى مفارقة لغوية، ذلك أن الأسلوب، وللدقة بنية القصيدة ككل تتضمن كل التقنيات المكتفية تماماً برصد الإنسان، في اللحظات التي ينزع فيها الأقنعة، وهذا ما يتأتى بشكل أو آخر من بندر الإنسان ومناصبته العداء لشتى أنواع الأقنعة، إنه ذاك الفتى الذي اخترع الدراجة على الورق، ولديه فكرة صغيرة كحبة قمح تنمو بين الصخور. من يهز رأسه ويضحك ويبدأ دائماً من الصفر، مدركاً أن الحياة تبدأ صباحاً بسبعة آلاف لون. إنه من يقيم توازناً مع الرعب، وصاحب أطول قبلة في التاريخ.
لا أعرف إن كان اعتبار السينما قد خطفت بندر من الشعر، قول دقيق! السينما التي قاربها في النهاية مقاربة الشاعر، مشاهدة وكتابة ونقداً، ويكفي أن تقرؤوا كتابه البديع “ساحرات السينما” 2018، لتجدوا كم من الشعر فيه، وهو يسرد حيوات وأقوال وأدوار 150 نجمة سينمائية ساحرة! بندر عبد الحميد أعطى القيمة الأسمى للحياة، التي عشقها عشق شاعر عظيم خبرها حتى الثمالة، وآمن إيماناً لا ريب فيه أن لا حياة من دون فن وحب وحرية، وجابهها مجابهة مايسترو لفرقة موسيقية، ولحين وفاته في 17 فبراير 2020 ظلّ بالنسبة لي ولكثر مثلي آخر آمالنا في دمشق المنكوبة.
الصورة من مجلة براءات وهي من غرافيكيات الفنان والشاعر خالد الناصري.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.