القاصد.. البقية الصالحة

9 يناير 2024

د. شاهين دواجي – كاتب وأكاديمي الجزائر 

ما أزال عند موقفي أنّ الدكتور حسين القاصد يمثّل وجها مشرقاً في الدرس النقدي العراقي المعاصر، ظهر هذا في الكثير من الكتب التي نشرها والتي تمثّل بحق اجتهادا حقيقيا مفارقا للسائد الذي درجت عليه الكثير من الرؤى التقليدية، والتي عسر عليها إلى الآن تجاوز ميراث الرّواد، من وجهة نظري تكمن ميزة القاصد في ” تهوّره ”  حين يفكّك الرؤى التقليدية بعنفه المعروف، كأنّه بذلك يثبت للمتلقي غيرته من نيتشه، فيستعيض مطرقته رغبة في انبلاج صبح جديد لمصلحة النقد العربي.

تخصّص القاصد في النقد الثقافي لم يكن ركوبا للموجة الراكدة أصلاً كما هو حال الكثير من المنتسبين إلى هذا النوع من النقد، والذين كان فرارهم من المنهج نتاج إرهاق معرفي، وليس حالة فلسفية أملتها انبثاق سرديات جديدة أرادت أنْ تتموضع قسرا بعد نجاحها في إيجاد شرعية أكاديمية من مثل الجنوسية ، والنسوية والزنوجية والكولونيالية….. ، فتخصص القاصد – أقول – نتاج همّ معرفي، وتاريخ من التأملات لعلّ أهمّها ما جرى ويجري في العراق، والذي لا يخرج توصيفه عن سرديات متناحرة لابدّ  لها من وقفة تفكيكية .

المتبع نتاج القاصد يمكنه أنْ يتلمس الكثيرة من التفاصيل المثيرة، لعل أوّلها فهمه العميق للنّسق؛ الشريحة الكبرى للنقد الثقافي، والذي بسبب سوء استيعابه رأينا هذا الإسهال في الكتابات النقدية الثقافية، وشهدنا كثرة المتطفّلين، إنّ مفهوم القاصد للنسق يكاد يقترب من مفهوم القدر في الدين، فهو يرى أنّ حركة الإنسان والتاريخ محكومة بحركة الإنساق، وتغير هذه الحركة متعلّق بميلاد أنساق جديدة،  وبهذا خرج بلا رجعة عن الدائرة التي رسمها العراب السعوديّ، وسار بعده عليها أمة من الناس .يبتعد القاصد في دراساته عن اجترار التنظيرات التقليدية، بل لا يعترف بالكثير منها، لأنّه ناقد لا يرى البصمة على حقيقتها إلّا في تطبيقاته، وليس التطبيق عنده ما تلك الرؤى التي عكفت على استكناه النصوص دون أن تلامس بها تراب الأرض، ووعي المجتمع، بل لابد – عبر خلطة من المعارف البينية أن تصل نتائج هذه التطبيقات إلى الهامش، وتمس الأرض بقدميها، من هنا وجدنا له حديثا عن قصيدة ( أنا وليلى) التي كتبها طالب مغمور، وأخذت شرعيتها من صوت “كاظم”، ثم لم ترهبه هالة كاظم فهوى عليها بفأسه في كثير من مكاناتها مبيّنا عوارها، ومن هنا نجده يرقب عن كثب أمثال الهامش العراقي وسلوكاته القبلة على اليد مثلا، وتقبيل الخبز لينتهي بنا وبه المطاف في مقاربة سياسية نبيهة حين نفيق على مواطن يقبل قطعة نقدية عليها صورة الحاكم ليصنع بذلك المزيد من ذلّه .

ليس في امكان ناقد مهما علا كعبه أن ينكر شعرية القاصد، وليس في حاجة إلى أحد كي يقول أنّه شاعر كبير، من خلال قصائد طافحة بالشعرية، وبانتهاك اللغة على كلّ المستويات، وليس هذا موضوعنا على أيّ حال إلّا إذا كنا نروم من خلاله تبيان أنّ مقدرة القاصد على تفكيك الشعر ومقاربته ثقافيا كلن نتاج كونه شاعرا، فقد كان القاصد الشاعر يضيء الطريق للقاصد الناقد، وبالعكس فقد كان الناقد رقيبا على هذا الزخم الشعريّ فخرج إلينا في هذه الزينة .أظل معترضا على القاصد في الكثير من رؤاه ومنها العنف الذي يميز تأملاته تجاه دوائر معينة مهما كانت ممارساتها على صعيد الواقع والسياسة تحديدا، وأظلّ أشكو إلى الأصدقاء تخييم إيديولوجية الناقد – وهو حرّ في ما يعتقد- على دراساته، وظنّ أنّها يمكن أنْ تذهب بشيء من حياده الذي يتحمّل في سبيله العنت، وأظلّ أقول أنّه رجل مجتهد يكتب في سياقات سريالية تمقت كلّ ماله صلة بالمعرفة ، وعلى المستوى الإنساني فالقاصد عنوان الانفتاح النكتة الراقية وتقبّل النقد، لهذا لم أتحرج  الآن أن أكتب ماله وما عليه بحب التلميذ لأستاذه .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.