أوروبا تعيد النظر شعبياً وحكومياً في أحداث غزة

1 مارس 2024

صحافة العالم – اليابان بالعربي

إن الحروب تأخذ بيد وتمنح بيد كما يقول تايلور بيتون، ولكن أوروبا ماذا أخذت وماذا خلّت؟ كتبت صحيفة اليابان بالعربي: لقد تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في تكبد أوكرانيا أضرارًا جسيمة، إلا أنها في الوقت نفسه أثمرت عن وحدة غير مسبوقة لأوروبا. في مواجهة التهديد العسكري الروسي، ظل الاتحاد الأوروبي قويًا بشعور بالوحدة والتضامن، وهو يضم 27 دولة أوروبية بالإضافة إلى بريطانيا والنرويج ودول أخرى. هذا الشعور بالتضامن لم يتزعزع بشكل عام، حتى بعد مرور عامين من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. ورغم وجود بعض الانحرافات والتوترات، مثل انتقادات المجر المتكررة لأوكرانيا، فإن أوروبا تظل في وضع يسمح لها بالتوحد لمواجهة هذه الأزمة الكبيرة. يبرز ذلك قوة الروابط السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد الأوروبي، والتي تساهم في التصدي للتحديات بشكل جماعي وفعال.

إلا أنه في الصراع العسكري بين إسرائيل وحركة حماس، الذي اندلع في العام الماضي، كان الافتقار إلى التنسيق بين الدول الأوروبية أكثر وضوحًا. فتباينت وجهات نظر الدول الأوروبية بشكل كبير حيال الأحداث، وتباين أيضًا الردود في الرأي العام في كل دولة، مما أدى إلى استجابات غير محددة من قبل الحكومات.

لم يكن هناك موقف موحد يمثل كل الدول الأوروبية في هذا الصراع، حيث تأثرت آراء الدول بالتباين في التفاعل مع الأحداث. قد تبنت بعض الدول مواقف أكثر تأييدًا لإسرائيل، بينما اعتبرت دول أخرى أن الوضع يتطلب التركيز على ضرورة حماية الحقوق الإنسانية للفلسطينيين. وفي غياب تنسيق واضح، ظهرت تلك الاختلافات بشكل واضح في المشهد السياسي والإعلامي الأوروبي. يظهر هذا الانقسام كتحدٍ أمام الاتحاد الأوروبي، حيث يواجه تحديات في تحقيق موقف موحد تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

فكيف ستتأثر أوروبا بهذا الصراع في المستقبل؟ وهل هناك أي شيء يمكن لأوروبا أن تفعله حيال ذلك؟ سأقوم في هذه المقالة بالإجابة على ذلك بالاستناد إلى المقابلات والدراسات.

تحول الضحية إلى الجاني

في السابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023، شنت حماس هجومًا مفاجئًا في داخل الأراضي الإسرائيلية من خلال عملية أطلقت عليها اسم ”طوفان الأقصى“ مما أسفر عن مقتل العديد من المدنيين واحتجاز لعدد من الرهائن المدنيين والعسكريين الإسرائيليين. وبعد مرور ستة أيام فقط على هذا الهجوم، قامت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، التي تعتبر رئيسة وزراء الاتحاد الأوروبي بزيارة إلى القدس.

خلال زيارتها، أعربت أورسولا فون دير لاين عن دعمها لإسرائيل في مواجهة الأحداث الصعبة، مظهرة بذلك تضامن الاتحاد الأوروبي مع الدولة اليهودية في هذا السياق. يُعتبر هذا الدعم مؤشرًا على الرغم من تنوع وجهات النظر داخل الاتحاد الأوروبي، إلا أن هناك توجهًا لتقديم التضامن والدعم لإسرائيل في مواجهة التحديات الأمنية والإنسانية.

ورغم أن أفعالها تعرضت لانتقادات واسعة النطاق فيما بعد، إلا أنها كانت مبنية على أساس معين في ذلك الوقت. ومن الواضح أن إسرائيل كانت الضحية، وبالتالي كان لديها الشرعية لتلقي التعاطف والدعم الأوروبيين.

وعلى عكس دبلوماسية الولايات المتحدة والصين وروسيا ودول الشرق الأوسط، التي تعتمد على القوة العسكرية والاقتصادية كمصادر للقوة، تضع أوروبا القواعد وحقوق الإنسان كأحد معايير الدبلوماسية. ولكن في حقيقة الأمر كانت الإستراتيجية التي اتبعتها أوروبا لسنوات طويلة تتلخص في وضع مثل هذه القواعد من أجل توسيع نطاق أنشطتها، وبالتالي جذب الفوائد لنفسها. وكان هذا هو التفكير وراء زيارة فون دير لاين.

ولكن، إثر هجوم إسرائيل المضاد الذي كان مفرطًا، تغير الموقف بشكل كبير لصالح الفلسطينيين، حيث أصبحت إسرائيل الجهة المعتدية في الصراع. تسبب الهجوم المضاد في سقوط العديد من الضحايا في الجانب الفلسطيني، وزاد من معاناة الفلسطينيين الذين أجبروا على الفرار من منازلهم ويحاولون النجاة من الهجمات العسكرية.

فعلى الرغم من محاولات الجهود الدولية لتحقيق السلام ووقف العنف، إلا أن الوضع لم يتغير بشكل جذري في عام 2024، وغزة تحولت إلى أزمة إنسانية متفاقمة بسبب استمرار العنف والتصعيد. يواجه الفلسطينيون ظروفًا صعبة للغاية، حيث يعانون من الخسائر البشرية والمادية الجسيمة نتيجة الهجمات والحصار الإسرائيلي المستمر.

وكما هو الحال في أوكرانيا، انتشرت لقطات مصورة للوضع في غزة في جميع أنحاء العالم عبر الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي انتشرت بشكل سريع في السنوات الأخيرة، مما أثار اهتمام الناس وتعاطفهم. كما أصبح معنى زيارة فون دير لاين عكس ذلك تمامًا، واندلعت المظاهرات المنددة بإسرائيل في جميع أنحاء أوروبا. وكانت هناك تقلبات ملحوظة في التصريحات التي أدلى بها زعماء كل دولة، وأصبحت أوروبا منقسمة بشكل متزايد.

التحدي الأكبر

من الواضح أن الفارق بين الأزمة في أوكرانيا والوضع في غزة يظهر بوضوح في عيون أوروبا، ويُعتبر الحرب الروسية الأوكرانية حدثاً بارزاً في القرن الحادي والعشرين، بسبب حجمها العسكري ودرجة تأثيرها المحتملة على النظام الدولي. بالنسبة لأوروبا، تُعد الحرب في أوكرانيا تحدٍ مباشرٍ لأمنها واستقرارها، ويمكن أن تهدد القيم والمبادئ التي بنت عليها على مر السنين، مثل مبدأ الديمقراطية وسيادة القانون. يُدرك القادة الأوروبيون أن استجابتهم للأزمة في أوكرانيا يجب أن تكون قوية وموحدة، وأن يتم الحفاظ على وحدة الاتحاد الأوروبي وتماسكه في وجه التحديات الجديدة التي تشكلها هذه الأحداث.

إلا أن الحرب بين إسرائيل وحماس ليست كذلك. فعلى الرغم من أنها حدث صادم ومثير للقلق، إلا أنه في الأساس صراع إقليمي تكرر مرات عديدة في الماضي، وتأثيره على أوروبا هو تأثير غير مباشر أيضًا. وفي حين أن هناك مخاوف بشأن انتشاره في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وأنه يؤثر تأثيرًا كبيرًا على الشحن في البحر الأحمر في الواقع أيضًا، فإن اللاعبين الرئيسيين وراء الصراع، والمتمثلين في الولايات المتحدة وإيران، يبدو أن لديهما رغبة بشأن تجنب التصعيد، ولكن لا يزال هناك مخاوف من احتمال تصاعد الصراع عن طريق الخطأ.

ولهذا السبب، فعلى الرغم من أن الدول الأوروبية تشترك في نفس الموقف فيما يتعلق بأوكرانيا، إلا أنه من المرجح أن تظهر الخلافات بينها فيما يتعلق بغزة.

”في حالة أوكرانيا، لم تتزعزع الدول الأوروبية في التزامها بصد النفوذ الروسي. وإن كيفية منع روسيا من مواصلة الحرب في أوكرانيا تقع في جوهر الإستراتيجية الأوروبية. وتبقى تلك الأساسيات كما هي حتى في حالة شخص مثل رئيس الوزراء المجري أوربان الذي يُظهر تقاربًا مع روسيا. ولكن حالة غزة مختلفة. فالموقف يختلف باختلاف الدولة، وتختلف الطريقة التي يُنظر بها إلى مدى أهميتها بالنسبة لكل دولة من الدول. ففي حين تُولي دول أوروبا الشرقية السابقة أهمية أكبر للتهديد الروسي، تصبح القضية الفلسطينية أكثر حساسية في أوروبا كلما اتجهنا جنوبًا“.

هكذا تشرح أوريلي بيون (27 عامًا)، المراسلة الأمنية لموقع ”يوراكتيف (Euractiv)“ الإلكتروني المتخصص بشؤون الاتحاد الأوروبي ومقره بروكسل ذلك. ففي أوروبا، تختلف العلاقات الجغرافية بشكل كبير، من دول مثل قبرص الواقعة على الشاطئ المقابل لغزة إلى دول بعيدة مثل دول الشمال. ولا يمكن تجاهل خصائص دول مثل ألمانيا، التي تحتفظ بعلاقة تاريخية خاصة مع إسرائيل، وفرنسا التي تضم أكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا.

المخاوف من اللاجئين والإرهاب

تشعر العديد من الدول الأوروبية بالقلق إزاء التأثيرات المباشرة المحتملة للصراع في غزة، وأحد هذه التأثيرات هي مشكلة اللاجئين، والآخر هو مشكلة الإرهاب.

وفيما يتعلق بالمشكلة الأولى، فإن ”أزمة اللاجئين الأوروبية“ في عام 2015 عندما توجهت أعداد كبيرة من اللاجئين من سوريا ودول أخرى شمالًا عبر القارة مشيًا على الأقدام، لا تزال باقية في أذهان الناس. ولم يتعمق الصراع بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول قبول المهاجرين فحسب، بل أدى في الأمد المتوسط ​​إلى صعود الشعبوية اليمينية في كل دولة من تلك الدول، الأمر الذي أدى إلى اضطرابات سياسية داخلية. وهناك قلق قوي من أن هذا سيحدث مرة أخرى، وقد حذر وزير الهجرة اليوناني ديميتريس كيريديس من ذلك قائلًا ”يجب علينا زيادة يقظتنا، وتشديد الرقابة على الهجرة“

وقد تم تطوير طريق تهريب من غزة عبر مصر وتركيا إلى جزيرة ليسبوس اليونانية حتى قبل بدء الحرب الحالية. وفي عام 2022، بدأ عدد اللاجئين الفلسطينيين في اليونان في التزايد، وبحلول عام 2003، أصبح الفلسطينيون يمثلون أكثر من 20% من اللاجئين في الجزر اليونانية، وهي أكبر نسبة بين اللاجئين من الدول الأخرى. وهناك احتمال أن يرتفع هذا العدد بسرعة في المستقبل. ويستعد الاتحاد الأوروبي لإجراء انتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2024، واعتمادًا على كيفية التعامل مع هذه الانتخابات، يبقى هناك احتمال أن تكون قضية الهجرة واللاجئين في دائرة الضوء.

أمَّا فيما يتعلق بالمشكلة الأخرى، والمتمثلة بالإرهاب، فقد كانت هناك هجمات إرهابية ومحاولات للقيام بهجمات مستغلةً الوضع في غزة كذريعة، مثل طعن سائح ألماني على يد رجل يُعتقد أنه متطرف إسلامي حتى الموت بالقرب من برج إيفل في باريس في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2023. ولكنها تبقى حالات فردية بدوافع شخصية. إلا أنه عندما وقعت هجمات إرهابية منظمة مثل ”الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو“ و”هجمات باريس 2015“ بين عامي 2015 و2016، تم اعتبار الإرهاب أزمة لأوروبا ككل. وحتى تاريخ شهر فبراير/شباط من عام 2024، لا يوجد ما يشير إلى احتمال حدوث مثل تلك الحوادث. ويتطلب الاستعداد للقيام بعمليات إرهابية على نطاق واسع وجود منظمة قوية للحصول على الأسلحة وتدريب الإرهابيين، فضلا عن دعم منظمات مثل ”القاعدة“ و”داعش“، ولكن يُعتقد أن هذا النوع من الشبكات قد وصل إلى حالة من الدمار بعد السلسلة السابقة من الهجمات الإرهابية.

ومع ذلك، فقد مرت عدة سنوات منذ ذلك الحين، ولا يزال هناك الكثير من الأمور المجهولة حول مدى تقدم المتطرفين الإسلاميين خلف الكواليس في إعادة بناء شبكاتهم. وبحسب مارك إيكر (42 عامًا)، مدير الأبحاث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)، والخبير في توجهات الجماعات المتطرفة، فإن الأفكار الجهادية التي تدعم المتطرفين الإسلاميين في أوروبا، والقومية الإسلامية التي تمثلها حماس، هما شيئان مختلفان أيديولوجيًّا. فهما في علاقة متضاربة، ومن الصعب أن نتخيل أن الاثنين سيعملان معًا على الفور. ويقول مارك ”على العكس من ذلك، هناك احتمال أن يصبح المتطرفون أكثر نشاطًا بسبب تحفيز التنافس بين تلك الجماعات. ونحن بحاجة إلى أن نكون حذرين للغاية، دون المبالغة في رد الفعل أو التقليل من شأنه“

تحديد الأهداف والخطوات للمستقبل

إن العلاقة بين أوروبا والشرق الأوسط ليست طريقًا ذو اتجاه واحد حيث تتأثر أوروبا فقط بالشرق الأوسط. إذ تتمتع المنطقتان، المتجاورتان جغرافيًا، واللتان ازدهرت التبادلات بينهما منذ القِدم، بتاريخ من تشكيل مجال سياسي واقتصادي واحد يؤثر على بعضهما البعض. ورغم أن الاضطرابات في غزة كانت ذات تأثير مباشر محدود على أوروبا، إلا أنه من غير الممكن أن تنظر إليها أوروبا باعتبارها أمرًا لا يعنيها. وإذا استمرت لفترة طويلة، فهناك خطر أن يتأثر أمن الطاقة. ومن الضروري ليس فقط التراجع لتجنب انتشار شرارة تلك الحرب، ولكن أيضًا تعميق المشاركة بشكل فعال، واتخاذ موقف يحاول التوصل إلى حل لتلك المشكلة.

وبالمقابل، فقد تراجع النفوذ الأوروبي في المنطقة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وفي هذا الصدد، جاء في دراسة مشتركة بين إيميليانو أليساندري، الخبير في سياسة البحر الأبيض المتوسط، ودومينيك رويز، عضو البرلمان الأوروبي، لصالح معهد الشرق الأوسط الأمريكي (MEI)، أن ”السبب الرئيسي لخسارة أوروبا لقوتها يعود إلى أن ألعاب القوى بين الدول أصبحت تحكم العلاقات مع إسرائيل وفلسطين وغيرهما من الدول الأخرى. وأن النهج الشامل والمتكامل والمتوازن الذي دعت إليه أوروبا تقليديًّا لم يعد يبدو جذابًا لتلك الدول“ . والعلاقة بين إسرائيل وفلسطين، اللتين كانتا تعتمدان على بعضها البعض اقتصاديًّا في السابق، أصبحت محاطة بالقمع والصراع القائم على القوة.

ولكن، على المدى المتوسط ​​والطويل، ترى هذه الدراسة أن هناك مجالًا كافيًا لأوروبا لإظهار وجودها في المنطقة والمساهمة في السلام والاستقرار. فلم تعد الولايات المتحدة، التي حافظت على مكانتها ”كوسيط نزيه“ في التسعينيات من القرن الماضي، قادرة على لعب مثل هذا الدور. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2024، أصبح من الصعب على نحو متزايد التحرك بالنسبة لها. ومن المأمول أن تعمل أوروبا على إحياء العلاقة بين إسرائيل وفلسطين، والتي تم تدميرها بهذا الشكل، وأصبح الطرفان متطرفين أكثر فأكثر، وأن تعمل على قيادة حوار دبلوماسي بينهما.

ولتحقيق هذه الغاية، من الضروري العمل على ترسيخ أسس المستقبل، بما في ذلك تنشيط التبادلات بين القطاع الخاص وتنمية الموارد البشرية الشابة في كلا الجانبين. ولعل ما تحتاج إليه أوروبا الآن هو أن تحدد بوضوح أهدافها للمستقبل، وأن تنظم خطواتها على المدى الطويل. وفي الوقت الحالي، ليست هناك حاجة إلى الإفراط في التشاؤم بشأن الاختلافات الطفيفة في الرأي وعدم التوافق بين الدول الأوروبية.

ولا يجب الاعتماد على الإجراءات على المستوى الحكومي فقط، بل يجب أيضًا بذل الجهود لتعزيز عمل المنظمات مثل الأوساط العلمية، ومراكز الفكر، والمنظمات غير الحكومية، والأفراد. وإذا قام الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه بدعم جهودهم، وتمكنوا من إيجاد وسيلة للتفاوض والحوار، فقد يصبح الطريق إلى بناء علاقة جديدة بين هذه المنطقة وأوروبا واضحًا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.