وسائل التواصل.. التنمّر في عالمٍ رقميٍٍ مفترس

26 مايو 2023

بيتي فرح – كاتبة وصحافية سورية

حتى وقت قريب, لم تكن ظاهرة التنمر محط اهتمام في مجتمعاتنا, إلى أن بدأت بالانتشار بشكل ملحوظ عبر مواقع التواصل الاجتماعي, من خلال إساءات مباشرة أو غير مباشرة يوجهها شخص تجاه شخص آخر, تحت مسمى التنمر الإلكتروني المختلف عن التنمر التقليدي القائم وجها لوجه. ناهيك عن خطورة نتائجه التي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى الانتحار أو التفكير به.

ومع تنامي أخطارها، استحوذت هذه الظاهرة على الاهتمام والبحث الأكاديمي على مستوى عالمي, مع دراسة أسبابها وتداعياتها ووضع الحلول لها. ومع الزيادة السريعة في الاتصالات الالكترونية وما رافق ذلك من تطور في وسائل التواصل الاجتماعي التي لها فوائدها الإيجابية لتصبح جزءا من حياتنا وأشهرها الفيس بوك وتويتر وأنستغرام وتيك توك الحاضن الأول للمراهقين, وغيرها,

إلا أن التنمر قد أخذ مسارا آخر أكثر خطورة, تزامنا مع الاستخدام الخاطئ لوسائل التواصل وضعف الرقابة, لينتشر المحتوى الضار في الحسابات الإلكترونية بسرعة قياسية كالكلمات المسيئة, والشائعات, والسخرية من شكل الشخص أو مرضه والمحتوى الذي يقدمه, وصولا إلى التهديدات, وتتم مشاركة الخبر أو بالأحرى تناول اسم أو صورة الضحية فيما بينهم بعيدا عن المعايير الأخلاقية, ليشعر الشخص المتنمر وكأنه يتعرض للاعتداء في أي مكان يرتاده وحتى في غرفته, فيفقد الأمل بالنجاة مما يؤثر على قدراته العقلية والنفسية.

وبسبب تكنولوجيا الأجهزة والبرامج يصبح التنمر والمتنمر أكثر جاذبية بسبب مقدرته على إخفاء حسابه وشخصيته ومن ثم ممارسة تنمره بحرية, يرافقها متعة زيادة المشاهدات وسرعة الانتشار, لنجزم أن من يقوم بهذا الفعل هو طفل كبير يعاني من المشاكل النفسية والسلوكية التي تعكس إحساسه بالنقص ليقوم بفعل التنمر للانتقام ولفت الأنظار وأيضا لغايات اخرى منها الابتزاز المادي والمعنوي.

وللتربية الخاطئة دور أيضا عندما تزرع الأسرة بذرة الغرور في رأس طفلها والنتيجة يكون شخصا يرى في مرآة عقله أنه الأفضل على الإطلاق, مع انعدام الرقابة العائلية والالكترونية, ولأنه وراء شاشته, فهو بالتأكيد غير مدرك لنتيجة ما يقوم به من تعذيب للضحية, فيتمادى أكثر. لتختلف تأثيرات التنمّر الرقمي على الصحة العقلية بحسب الوسط الذي تحدث عبره, فقد أثبتت الدراسات أن التنمر بواسطة الصور أو مقاطع فيديو في مواقع التواصل الاجتماعي مؤذ جدا للمراهقين, الذين يعانون من الشعور بالخزي, والتوتر, وعدم الثقة بالنفس إزاء ما يفكر الناس به حيالهم, ينتج عنه الانزواء عن الأصدقاء والأسرة وإلى نشوء أفكار سلبية او شعور بالذنب بشأن أمور فعلها أو لم يفعلها وأدت إلى تعرّضه لأحكام سلبية و الشعور بالوحدة, وإحساس بالعبء يفوق طاقته على التحمل والتوقف عن القيام بالأنشطة التي يستمتع بها, مما يصل به إلى العزلة, وإن طالت المدة ستؤثر هذه المشاعر السلبية على العقل وتؤدي في بعض الأحيان إلى تعاطي الكحول والمخدرات وأحيانا إلى الانتحار, وعندما يكون الضحية طفلا يخاف البوح بما يتعرض له, يأتي دور المرشد الاجتماعي في المدرسة بالإحاطة بظاهرة التنمر من جميع جوانبها وإيصالها إلى التلاميذ من خلال دروس التوعية التي تشجعه على التكلم, والتنسيق مع الأهل بشكل ممنهج.

أفرزت وسائل التواصل نوعاً جديداً من أعمال الترهيب

هذ يشير بقوة إلى أن وسائل الاتصال التكنولوجية أفرزت نوعا جديدا من أعمال الترهيب تحت مسمى التنمر الإلكتروني من خلال التخويف والتهديد عبر الشبكة العنكبوتية, وتساهم وسائل التواصل في ازديادها بطريقة أكثر إيذاء مما كانت عليه وجها لوجه لسرعة انتشارها أكثر من الرسائل النصية على الهاتف المحمول, فيصنّف التنمر الإلكتروني هنا بالسلوك العدواني بأشكال مختلفة كالتنمر اللفظي والنفسي والجنسي .

يمكننا القول أن التنمر عبر الإنترنت لا يتعلق فقط بالكشف عن المتنمرين, بل يتعلق أيضا بإدراك أن الجميع أشخاص يستحقون الاحترام, وما نشاهده من مقابلات تلفزيونية مع أشخاص يختلفون عن غيرهم في ميولهم وقناعاتهم وتوجهاتهم السياسية والإيديولوجية, يتحولون بين ليلة وضحاها إلى “ترند” هدفه الترويج والربح المادي و أحيانا إلى الثرثرة في “الصبحيّات” الالكترونية وهذا نوع آخر من التنمر اللاأخلاقي, مما يجعلنا ننادي مرارا وتكرارا بتعلّم ونشر – ثقافة احترام الاختلاف- الداعي إلى احترام حرية الشخص الآخر .  بالتأكيد يمكن التغلب على هذه التأثيرات السلبية, ويمكن للضحايا أن يستعيدوا صحتهم وثقتهم بأنفسهم من خلال التجاهل أو التكلم مع الأشخاص الثقة للحصول على النصيحة. والعمل بمنظومة التربية الإعلامية وتوظيفها للحد ولو بشكل نسبي من جريمة التنمر الإلكتروني لتعرف الضحية أنه هناك قانون الكتروني يعاقب من يقوم بالتنمر, والأهم عدم تنازل الضحية عن حقوقها أمام الشخص المُتنمّر وإخفاء ضعفه وخوفه منه, كيلا يتمادى بهذهِ الإساءات.

ويبقى الاحتضان الاجتماعي بأبعاده الايجابية دواء سحري يحد من مصائب التكنولوجيا, والعودة للكتاب الورقي الذي يصقل العقل “علّه” يعلّم كيفية التعامل مع عالم الانترنت المفترس .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.