نصنع مدائننا وتصنعنا – فواغي القاسمي

فواغي القاسمي

كلما تواردت احتمالات الهروب على مخيلتي المتعبة أجدني أحزم كل ذكرياتي المرهقة وأدسها في حقيبة عتيقة.. أواريها النسيان وأهرب سائحة في ملكوت يعرفني. لا أعرفني إلا به ولا أعرفه إلا بي، تتشابك خيوط الوعي واللاوعي، تتشابك تدفقات القلب وانهمار الشعور لحظة انفلات القدر من قبضة اليقين، تتداخل هوامش التأريخ المسكونة بوجدان العابرين والساكنة في منعطفات الأرواح أركب الريح و أسافر، أهبط كفراشة تبحث عن اللون والطعم والرائحة.. هي كذلك البلاد التي أزورها، أرتب لحظاتي وتوقي أصطحب دوماً رفيقي الجميل “آنو” البوميرينيان المدلل الذي أصبح جزءا من روحي في رحلتي لا تستهويني أنوار المدن الحديثة أو بريق الماركات الباريسية والإيطالية المتشابهة في كل مكان، ولا تلك العطور الأوروبية، بل عطر المدينة الذي يفوح في أجوائها. أتلمس الأزقة العتيقة وأنبش في زوايا التاريخ المعتق في آثارها ومتاحفها وأسواقها الشعبية.

تسكنني بعض من تلك الأماكن حتى لا أكاد أكون قادرة على فراقها، أجدني في كل حبة رمل فيها، وتتعلق جدائل روحي على شرفاتها وحورها.. لبنان، غرناطة، اشبيلية، سان بطرسبيرغ، أدنبرة، كابادوكيا، حلب ودمشق. الأماكن التي تشكل مقامات عزف على أوتار الوجد، وتوائم الروح التائقة للذوبان.

لبنان حيث يتغنج القرميد الأحمر بين جدائل السنديان، تمر به سحابات “الغطيطة”  كنديم يسكب لها كؤوس التيه، هناك يميد الحلم في منعرجات الخيال، وينساب نسيم بارد يتثنى على أغنية لفيروز نمت وكبرت معنا وانصهرت في ثنايا الروح. أما حلب فتلك حكاية أخرى من حكايا الجنيات التي تسكن ذاكرتنا كقصة من قصص ألف ليلة وليلة، لسوقها العتيق رائحة الزمن ولذة التاريخ، تلك الحوانيت المسقوفة والمتواصلة كمتاهة لا يمكن الدخول فيها دون دليل أعتاد عليها وخبر مداخلها ومخارجها.

أما دمشق، ياسمينة أموية تستحضر روحك التي عاشت مسبقا في ديوان سيف الدولة وحاورت المتنبي وأبي فراس ، تطوف في أزقتها ومنازلها العتيقة حيث تستدرجك أناشيد المولوية والموائد الشامية في فنائها حول نافورة الموزاييك التي تبدل عليها الزمن ولا تزال شابة لم يمس ملامحها الجميلة انحسار العمر، فترى نزار بكل زاوية هناك ولكن

نزار رحل

وأغلق باب القصيدة

فماذا ترانا سنكتب يوما

إذا ما ابتلينا بوحي الكلام

وضج النشيج بصدر القوافي

يفتش عن مغزلٍ للحياكْ

أنحرثُ بين حنايا الحروف

و تحت ظلال السطور

و بين سنابل قمح الشفاه

و حيث الينابيع و الياسمين

لعل نزار يكون هناك

 

تاريخ بابل المفقود بوابتها الزرقاء، أسوارها وأسودها الشامخة، لن تجدها على أرض أهلها، ولكن احتواها متحف برلين كمزار مقدس، زيارة واحدة لا تكفي، حالما تغادر المكان يتهادى إلى روحك صوت نبوخذ نصر أن عد إليّ أيهذا الشقي، كيف تجرؤ خطاك على الرحيل متعجلا هكذا، أنت إذا لم ترني، ويحك! كيف سمحت لهم أن ينتزعوني من تراب بابل!

أما غرناطة ، ريحانة القلب الساكنة روحي، أجدني هناك في كل زقاق وكل شرفة، يتهادى إلي غناء زرياب وأشعار ابن زيدون ولسان الدين بن الخطيب، أرى ولادة تسحب ذيل ردائها في قصر الحمراء تغري الشعراء والعشاق يداعب الشعر مخيلتي حينها

فتضحك سنبلة هاهنا

و ترقص أخرى على الرابيهْ

كغرناطة تشتهي ليلها

يسيل على أهدابها الناعسة

و عطر الرنود

تعتق في الشرفة الساهرهْ

يدغدغ فيها أماسي الحنين

وعشق ابن زيدون للغانيهْ

 

أحاول قليلا مغادرة التاريخ وامتزج بالطبيعة التي اشتق منها إسمى ، يحملنى التوق إلى الماء واللون ، إلى الفرح والأمل ، تغتسل روحي ببهاء زهر الكرز الوردي والأبيض الذي تكتظ به طوكيو في موسم الربيع ، أجوب حدائقها واستقل قارباً في نهرها أجدف تحت أغصان تلك الزهور التي تعانق الماء هناك تنسلخ الروح من طينها وتسافر في ملكوت الرب تسبّح بذاك الجمال المتفرد بذاته .. أما الحلوى المصنوعة منه فهي ما لا تجده أو تذقه قبلا. سحر لا يقاوم ولذة تنسيك ما قاسيته من عذاب الريجيم!

أعود بحقيبة جديدة ملأى بذكريات الأماكن وتذكارات ممغنطة شاهدة عليها، ألصقها على جوانب المدفأة و أعلاها حتى كادت أن تصل السقف فأستعين بسلم كي أكمل مشاوير المتعة للأعلى أعود.. أعيش متعة الذكرى ردحا من الزمن، وحين يتراكم الملل أعاود الترحال من جديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.