نسق الاستغفال عند عبد الله الغذامي – د.حسين القاصد

تأنيث القصيدة وإشكالية الريادة

د. حسين القاصد

في أكثر من مناسبة، يلجأ الدكتور عبد الله الغذامي إلى الحيل الانشائية، ليؤسس لرأي جديد، ينسبه ابتكاراً لنفسه، وأحسب أنه يفعل خيراً بنسبته إليه، فالثقافة والنقد في غنى عن هذا الاستغفال المدجج بالجمل المغرية.

فبعد ان اتكأ الغذامي على أسطورة الأدب الرفيع لعلي الوردي وأخذ يتوسع في تضخم الأنا لدى الشاعر، واستقراء فحولته ـ وهو الأمر الذي لم يغفله علي الوردي ـ أخذ الغذامي ينزاح كثيراً ويحلق في الاتساع الخاطئ، ليصل بنا إلى وقوعه في فخ التأنيث والتذكير ليجد مرادفاً للفحولة الشعرية وهو تأنيث القصيدة في محاولة منه لعل مضمرها هو نسق المغايرة لكي يخفي ماغرفه من بئر علي الوردي.

إن الغذامي يجرد نازك الملائكة في ثنائه عليها حين يقول: ( إن عمل نازك كان مشروعاً أنثوياً من أجل تأنيث القصيدة. وهذا لم يكن يتم لو لم تعمد ـ أولا ًـ إلى تهشيم العمود الشعري، وهو عمود مذكر، عمود الفحولة. ولقد أقدمت على ذلك ببصيرة تعي حدودها وتعرف حقوقها فأخذت نصف بحور الشعر. والنصف دائماً هو نصيب الأنثى، ولذا فإن نازك لم تطمع بماهو ليس لها)1.

هنا يقف القارئ مكتوف الوعي بين أم يسلم بما جاء به الغذامي من استنتاجات غريبة، وبين الحقيقة التي هي الحقيقة؛ فهل يتم تأنيث القصيدة حين تقولها الأنثى؟ وبصورة أدق: هل هو تأنيث القصيدة أم تأنيث الشاعر؟ ثم أليست القصيدة ـ لفظاًـ هي أنثى؟ ومن أين جاء الغذامي بأن النصف من حق الأنثى؟ فإذا كان ذلك نابعاً من قانون ديني (( للذكر مثل حظ الأنثيين)) فإن النصف الآخر يكون للأنثى الثانية في حالة عدم وجود ذكر، وإلا فحقها الربع دينياً، واذا كان نسقاً اجتماعياً بأن المرأة نصف المجتمع وفق التنظير المدني فلا يعني هذا ان تكون نصف بحور شعر المجتمع للمرأة لأننا سوف نكون في مجتمعين أحدهما للمرأة والآخر للرجل، كما ان بحور الشعر للمجتمع كله لا للمرأة فقط، ولا ندري كيف حاول الغذامي أن يمارس نسق الإغراء في تقسيمه هذا لبحور الشعر، وكيف تكون البحور الصافية قريبة للأنوثة، فالرجز ـ الذي لم يكن شعراً في طفولة الشعر ـ كان فحولياً جداً لاسيما في المعارك وأكثر قائليه هم قادة المعارك ولا يشترط ان يكونوا شعراء، ومن مثل ذلك قول النبي محمد (ص) :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

بحور الشعر للمجتمع كله لا للمرأة فقط، ولا ندري كيف حاول الغذامي أن يمارس نسق الإغراء في تقسيمه هذا لبحور الشعر، وكيف تكون البحور الصافية قريبة للأنوثة

كما أن الرجز ولد وترعرع ذكورياً قبلياً فخرياً حماسياً حربياً، ودائما لايخلو من (أنا) فكيف تم تأنيثه على يد الغذامي الذي انخدع وحاول ان يخدعنا حين رآى الرجز في النصف الذي اختارته نازك من البحورالشعرية، ناعتاً النصف الآخر بأنها بحور فحولية .

إن الغذامي وهو يحاول إثبات انفراد نازك الملائكة بريادة الشعر الحرـ وهو الأمر الذي لم يحسم أبداً حتى اللحظة ـ يقع في الوهم الثقافي ومن ذلك: وصفه البحور الصافية بالبحور المؤنثة لقدرتها على التقلص والنزف والتمدد شأنها شأن الجسد المؤنث، ثم ينعت النصف الآخر بالبحور ببحور الفحول كون الجسد المذكر لايقبل التمدد والتقلص ( 2)، وهو أمر غريب جدا فهل فات الغذامي ان يقف على مجزوء البسيط ومخلعه وعلى البحر الخفيف وتمدده وتقلصه، ثم ما هذا التشبيه القسري بين البحور والجسد؟

وإذ يستطرد الغذامي يقول: ( ولقد حاول الشعراء الرجال إدخال البحور المذكرة إلى القصيدة الحديثة فلم يفلحوا في ذلك، فالقصيدة الحديثة تأبى التذكير وهي في صدد التأنيث) (3)؛ ولعلنا نلاحظ انه بدأ بالافتراض ثم انتهى الجزم، حيث بدأ بإغراء القارئ وايهامه بأن هناك بحوراً مؤنثة وأخرى مذكرة ثم عاد ليجزم ويقول البحور المذكرة) كأنه رسخّها وفرغ منها .

واذا عدنا للريادة فلقد عثرنا على تجارب ناضجة من الشعر الحر (التفعيلة ) في نهاية العصر العباسي، وكانت تجارب ذكية أغفلها القامع الديني كون الشاعر ليس موالياً للسلطة الدينية الحاكمة (4 ) وقد جاءت على البحر البسيط الذي يقول الغذامي حاول شعراء الحداثة معه ـ كونه أحد البحور المذكرة ـ ولم يفلحوا؛ أما اذا تناولنا بحور الغذامي المؤنثة فنجد أشد القصائد فحولة تلك التي كانت على البحر الكامل مثل معلقة عنترة العبسي وهي قصيدة فحلة في بحرٍ جسده أنثى على حد تسمية الغذامي ومن ذلك أمثلة كثيرة .

نرى الغذامي يتناسى الرواية الشهيرة التي وردت فيها كلمة (فحل ) لأول مرة، لأن امرأة تدعى أم جندب هي الناطقة الأولى لهذا المصطلح حين حكمت بين زوجها امرئ القيس وعلقمة وحسمت الأمر بأن يكون علقمة الفحل على الرغم من تغزل زوجها بها

يقول الغذامي: ( ولذا صارت العبقرية الإبداعية تسمى “فحولة ” وليس في الإبداع “أنوثة” واذا ما ظهرت امرأة واحدة نادرة وقالت بعض شعر فلابد لها ان تستفحل ويشهد لها أحد الفحول مؤكداً فحولتها وعدم أنوثتها لكي تدخل على طرف صفحات ديوان العرب وتتوارى تحت عمود الفحولة، وهذا ما جرى للخنساء وهو مثال واحد يتيم لم يتكرر في ثقافة الشعر على مدى لايقل عن خمسة عشر قرنا (5).

نرى الغذامي يتناسى الرواية الشهيرة التي وردت فيها كلمة (فحل ) لأول مرة، لأن امرأة تدعى أم جندب هي الناطقة الأولى لهذا المصطلح حين حكمت بين زوجها امرئ القيس وعلقمة وحسمت الأمر بأن يكون علقمة الفحل على الرغم من تغزل زوجها بها، كما نراه يتناسى أيضاً تنظير نازك الملائكة لموسيقى الشعر وبحوره الخليلية والغذامية وأعني البحور كلها كما هي عند الخليل بن احمد الفراهيدي، والبحور المقسمة إلى قسمين أنثوي وذكوري كما يميل الغذامي، وقد لايحتاج الباحث إلى جهد كبير لكي يتلمس تنظير نازك في هذا المجال .
أما فحولية المرأة فهل لنا ان نسأل أين أنوثية نازك في قصيدتها (الشهيد ) وما فرقها نسقياً عن الخنساء؟ وكذلك قصائدها في مدح عبد الناصر ومدح عبد السلام عارف؛ وأين كان الغذامي من قول ولادة بنت المستكفي :
أنا والله اصلح للمعالي وأمشي مشيتي واتيه تيها
أمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها.

ألا يعد هذا تأنيثاً للقصيدة اذا آمنا جدلاً بفرضية الغذامي؟ فهنا لم يأت التأنيث كون التي قالته أنثى بل جاء كونه خطاباً أنثوياً محضاً لامرأة تقطر أنوثة وتفاخر بها، ولولادة ماهو أكثر جرأة من هذا لو شاء القارئ الكريم ان يبحث عن روح الأنثى في نصها، بينما تكاد تتصحر قصائد نازك من روح الأنوثة، وكذلك في طرحها النقدي .

ومما لاشك فيه أن الفحولة لاتشمل جميع الذكور بل لابد من تفرد ما للفحل على الآخرين، والا لما انماز شاعر بفحولته وقيل عنه (الشاعرالفحل )، وهذا يعني ان الفحل هو المستفحل المميز لاسيما انه استفحل على الشعراء والشواعر على حد سواء؛ فالفحل هو(الذكر المستفحل)( 6) ؛ كما ان (الفحل من كل شيء، وهو الذكر الباسل… والعرب تسمي سهيلاً: الفحل، تشبيهاً له بفحل الإبل، لاعتزاله النجوم، وذلك لأن الفحل إذا قرع الإبل اعتزلها) (7 )، وبهذا تنتفي الحاجة لتأنيث وتذكير القصيدة ـ مع احترامنا الشديد لما ذهب إليه الغذامي ـ فمصطلح شعر(التفعيلة) متأخر جداً عن مصطلح الشعر الحر؛ وقد ظهر هذا المصطلح بعد انتشار لون من الشعر أكثر حرية وله الحق ان يكون (شعراً حراً ) وأعني بذلك قصيدة النثر ـ وهي قصيدة مؤنثة المصطلح اذا آمنا بطرح الغذامي ـ التي مرت بمراحل من التسميات المذكرة من النثر المركز إلى النثر الفني والشعر المنثور إلى أن استقر المصطلح على (قصيدة النثر) وهو مصطلح مؤنث بغض النظر عن كون قائل القصيدة شاعراً أم شاعرة / ذكراً أم أنثى.

ولعل شاهداً من أهلها ـ وهو شاهد اثبات معاصر لحركة الشعر الحر ـ يقف موقف التحكيم في مسألة الريادة ( 8) فهو يعبر عن معاناة جيله حيث يقول حسين مردان لقد كنا نسبح في نهرين معرجين في وقد واحد . فنحن نعاني من النقص الهائل من وسائل التعبير. فالقوالب الجاهزة والكلمات القاموسية وسلطنة القافية الواحدة تحد من انطلاقاتنا الإبداعية الخاصة للابتكار.. ونتعرض من الجهة الأخرى لسيل جارف من الموجبات والمواضيع التي كان يزخر بها المجتمع العراقي في الأربعينات ..وكانت الأشباح العمالقة للرصافي والزهاوي والجواهري تدفعنا إلى المزيد من الركض للبحث عن أفكار وأدوات جديدة . حتى وصل بنا التحدي إلى الثورة والخروج على الأسلوب الأكاديمي .. فقد وقفنا أمام حائط صلد شيد من قبل مئات الشعراء والنقاد القدامى .. فنهضنا معاً وبوقت واحد بتوجيه الفؤوس نحو الطابوق الأسود . آما ما يقال من أن المتمرد الأول هو السياب أو عبد الوهاب البياتي أو نازك فشيء يدل على الغفلة والغباء . لأن بذور حركتنا كانت تنمو منذ عهد بعيد ولو أنها ولدت على أيدينا. واعتقد ان سبب التعلق او الفوز بلقب الريادة هو المنافسة العنيفة التي كانت قائمة بيننا على الرغم من كل عواطفنا وعلاقاتنا الصداقية. (9 )

وبعد هذا الاقتباس الطويل يتضح للقارئ الكريم ان شاعراً لقب نفسه بالدكتاتور في أكثر من مناسبة، لم يتجرأ على القول بنسبة الريادة له، كما انه ينقلنا إلى صالة ولادة الشعر الحر حين يشرح لنا كيفية الولادة وما مرت به من ظروف وكيف ترعرع هذا الطفل الجنين (الشعر الحر) في رحم التفكير إلى ان ظهر، ولعله افصح ـ حين اشار الى وجود الاسماء الكبيرة مثل الرصافي والزهاوي والجواهري، واصفاً اياهم بالأشباح ـ عن الدافع الحقيقي لهذه الثورة، فهم فتية يريدون حصتهم من الضوء؛ لذا فلاعلاقة للتجديد بتأنيث القصيدة أو تذكيرها ، فصراع الريادة ـ حسب مردان ـ صراع غفلة وغباء وذلك لسببين على حد قوله، أولهما: أن بذور حركتنا كانت تنمو منذ عهد بعيد، وثانيهما: هو المنافسة العنيفة التي كانت قائمة بين الرواد على الرغم من كل عواطفهم وعلاقاتهم الصداقية.

لاعلاقة للتجديد بتأنيث القصيدة أو تذكيرها، فصراع الريادة ـ حسب مردان ـ صراع غفلة وغباء وذلك لسببين على حد قوله، أولهما: أن بذور حركتنا كانت تنمو منذ عهد بعيد، وثانيهما: هو المنافسة العنيفة التي كانت قائمة بين الرواد.

وقد لاحظنا أن مردان جعل نازك ثالثة بعد السياب وعبد الوهاب ناقلاً الجدل الجاري في الوسط الثقافي ولو كانت الأولى لما جاءت ثالثة، لأن حسين مردان ينقل لنا الجدل نقلاً حياً ثم يبدأ بتحليله؛ وهو ـ على شدة دكتاتوريته ـ لم يدع الريادة لنفسه ، بل كان نافياً ـ في الوقت نفسه ـ أي دور لصلاح عبد الصبور وادونيس (كنا نكتب ونقرأ الشعر في الباصات والحانات وفي الشوارع. لقد كنا قافلة مدججة بالقريض . يوم لم يكن لادونيس أو صلاح عبد الصبور أي وجود على لوحة الشعر الحديث . وأنا بالذات لا أحتكر لنفسي أي موقع خاص لأنني أؤمن بالامتياز الفني..ولذلك أنصح أصدقائي من الشعراء الشباب ان يتركوا عملية الاختزال لجيلنا لأننا ـ في الواقع ـ أكبر من ان نبلع دفعة واحدة . واذا كان لابد من اكلنا! فيجب ان نؤكل على مهل وباعتناء أيضا!) (10 ).

ومما لاشك فيه ان أصدقاء مردان سمعوا بنصيحته سواء أكانوا اخذوا بها أم لم يأخذوا؛ لكن الغريب جدا ان نأتي الآن فنحسم ريادة شكل شعري ظهرت بوادره في العصر العباسي ـ كما اسلفت حين اشرت لتجريب ابن الشبل البغدادي ـ بينما نأتي اليوم لنحسم الريادة لنازك تمهيدا لتأنيث القصيدة، علما ان القصيدة (النازكية) لا أنوثة فيها غير جنس الشاعرة فحتى اسم الشاعرة هو من الاسماء المشتركة في العراق مثله مثل صباح ونجاح وغيرهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر
1-تأنيث القصيدة والقارئ المختلف ـ عبد الله الغذامي ـ المركز الثقافي العربي 2005 : 16ـ17
2- انظر : تأنيث القصيدة : 17
3- السابق : 18
4- انظر : الناقد الديني قامعا
5-تأنيث القصيدة: 12 ـ 13
6-الجمهرة
7- مقاييس اللغة
8- انظر : من يفرك الصدأ ـ دار الجمل ـ بغداد 2010 : 156 ، تعليق د علي جواد الطاهر في الهامش على مقالة حسين مردان : الرواد في شعرنا الحديث
9- السابق :155 ـ156
10السابق : 156

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.