نابولي مدينة الشغف والجنون تفوز بالدوري بعد حرمان 33 عاماً

حكاية مدينة، حكاية حبّ

1 مايو 2023

هاني نديم – نص خبر

غابت أكثر المدن جنوناً بكرة القدم عن الفوز بالدوري الإيطالي 33 عاماً. نعم أعني نابولي مدينة الشغف والجنون الذي لا مثيل له بكرة القدم. هاهي اليوم تفوز بالدوري بعدما فازت به مع مارادونا لآخر مرة عام 1990.

عمّ الصمت المدينة ليل أمس بانتظار فوزٍ معقّد. حيث تقول النتيجة: إذا تغلب نابولي متصدر الدوري على غريمه المحلي ساليرنيتانا وفشل لاتسيو صاحب المركز الثاني في الفوز على إنتر ميلان، فإن نابولي سيفوز بدوري الدرجة الأولى للمرة الثالثة في تاريخهم منذ أن قادهم دييجو مارادونا إلى الفوز المرعب التاريخي. وهذا ما حصل.

لقد خرج أهل المدينة بجنون بعد فوز نابولي مكررين ما حصل عام 90، الأمر الذي ذكرني برحلتي إلى نابولي والتي وضعتها في كتاب “بروتريهات حزينة من استوديو الأفراح” ، عادت تلك الرحلة بحذافيرها.

لقد شغلني الشمال الإيطالي في كل زياراتي، كانت روما أقصى الجنوب لديّ قبل أن أعد العدة لنابولي ذات الأسرار المرعبة، قرأت الكثير عنها  التي تحتاج إلى زيارة طويلة طويلة، ولكن لا بأس.. أربعة أيام تكفيني.

كان اسم نابولي يعني لي “البيتزا” قبل كل شيء! البيتزا  بسيرتها الذاتية والمهنية وطريقة شيّها ورحلتها في الفرن، كماكانت تعني نابولي لي أيضاً “سراديب الموتى” وقصصها الخرافية والكثير من أسرار إيطاليا التي لا تنتهي، قال لي أول نابوليتاني أراه في حياتي: “ميلانو جميلة جداً إلا أنها تفتقر إلى الخرافة.. الخرافة والعشق هما نابولي”.

عام كامل وأنا أقرأ حول نابولي وأدون الملاحظات، يا لها من مدينة، فقط أحتاج أن أرى ما قرأت عنه، ولكن… ما الذي أتى بمارادونا إلى هنا؟ لماذا أراه على كل الجدران؟ لن أشغل نفسي بهذا ورحلتي أقصر من مارادونا شخصياً!

كانت إيطاليا فعلياً مقسمة إلى اقتصاديْن منذ توحيدها عام 1871. الشمال الصناعي الغني، والجنوب الزراعي الفقير

جئت لسراديب الموتى والمتاهة الممتدة تحت مدينة نابولي، جئت لسلالم سانتا ماريا وكنيسة سان سيفيرو وكرسي سانتا ماريا فرانشيسكا التي تقصدها النساء من كل حدب وصوب يتشفعن بها ليحملن ويلدن! جئت لحديقة الشاعر العظيم “فرجيل” الأسطورية التي قيل أن فرجيل عثر فيها على زجاجة سُجن فيها اثنا عشر شيطانًا، ومقابل تحريرهم سيعلمونه جميع أسرار السحر، فرجيل الذي كتب الإنياذة في اثني عشر مجلداً واثني عشر عاماً وعده النقاد ساحراً في الشعر، وعدّه “دانتي” والعامة ساحراً حقيقياً… ولكن لماذا يطالعني مارادونا أينما ذهبت؟ سألت الراكب بجانبي. أجاب دون أن ينظر إليّ: “لا أعرف. أنا مثلك لست رياضياً”. دييغو مارادونا.. إيييه، كدت أنساه.

كانت إيطاليا فعلياً مقسمة إلى اقتصاديْن منذ توحيدها عام 1871. الشمال الصناعي الغني، والجنوب الزراعي الفقير، هوّةٌ اقتصاديةٌ هائلة، الشمال الازدهار والنمو، الجنوب الفساد والجريمة المنظمة، الشمال مملكة Fiat المرعبة والجنوب الفلاحون السذج، الـ “terroni” وهو مصطلح مهين للغاية. عشرات المبادرات الشمالية لدعم الجنوب فشلت كلها بسبب الفساد الإداري والمافيات، الشمال الحصانة والجنوب البطالة، الشمال يدفع الضرائب والجنوب ينفقها، قامت الكثير من الحركات اليمينية تطالب باستقلال الشمال عن الجنوب، هذه التراكمات امتدت لكل تفاصيل الحياة وكرة القدم منها، وبالطبع؛ سيطر الشمال على تلك اللعبة، يوفنتوس واس ميلان والإنتر. لم يفز أي فريق جنوبي إلى أن جاء دييغو الذي قلب الطاولة والبلاد والمراهنات وكل البديهيات.

لم يعان إيطالي من العنصرية والمناطقية أكثر من ابن مدينة نابولي. كانت فرق الشمال تستقبل فريق نابولي بهذا النشيد كتقليد:

مرحباً بكم في إيطاليا!

حتى الكلاب لتهرب من النابولياني

لا بد من غسيل النابولياني

حامل الكوليرا والفسفس

النابولياني قذارة.. النابولياني كوليرا

اغسلوهم بالنار

نابولي كانت تغلي، تريد أن تثأر لنفسها ولو لمرة، أوكلت “أنطونيو جوليانو” رئيس النادي لشراء دييغو مارادونا من برشلونة بأي ثمن، اجتمعت لأجل هذه الصفقة كل مرافق نابولي، الشعب والمؤسسات وحتى المافيا النابولية “الكامورا”! لقد جمعوا المال الناقض من أصحاب المحال ومن المؤسسات في مدينة كانت حينئذ دون رئيس بلدية وفي نقص فادح في الوحدات السكنية والصرف الصحي والمدارس والحافلات والعمل والضمانات، إلا أن الصحف عنونت في اليوم التالي من الصفقة لا يهم: لدينا مارادونا.

يقول مارادونا في سيرته الذاتية: “إنهم يحبونني حقاً، كانت نابولي مدينة مجنونة، مجنونة مثلي، كرة القدم هي الحياة لدى أهالي نابولي. ذكرتني بأصولي وجذوري، جنون في الطرقات، إضرابات عن الطعام. أناس قيدوا أنفسهم بالسلاسل على سياج ستاد “سان باولو”  يترجونني أن آتي.. كيف يمكنني أن أخذلهم”؟

جوليانو يشبه مارادونا، هو أيضاً من أحياء نابولي الفقيرة. لقد استطاع أن يقنعه بالمجيء إلى فريق مغمور، همس له قائلاً: ستصبح إلهاً في نابولي، الشعب سيموت من أجلك! وافق مارادونا على الفور، كان بحاجة ماسة للحب والتقدير بعد سنوات مع برشلونة عانى فيها من التمييز العنصري والدونية أينما ذهب. جوليانو بدوره كان يريده بأي ثمن، وافق على رقم قياسي لم يعرفه العالم في الثمانينيات للتوقيع مع هذا الأرجنتيني، برشلونة بعد أن تم الاتفاق على عشرة ملايين وأربعمئة ألف دولار طلب في آخر لحظةٍ مبلغاً إضافياً قدره نصف مليون جنيه استرليني لإتمام الصفقة. المبلغ تم جمعه من الشعب النابولي بواسطة مجموعات بشرية انتشرت في الشوارع ولك أن تتخيل من أين. من المساكن السيئة السمعة في الحي الإسباني ومن حي فورسيلا الذي تديره الكامورا، ساعدوا جميعًا في تعويض الفرق وتم تنفيذ الصفقة.

على قائمة أهم اللحظات في تاريخ الرياضة، ما يزال مشهد مارادونا وهو يدخل إلى استاد ساوباولو في نابولي بين ثمانين ألف مشجع يغمر العالم، ينتظرون قديسهم الذي هبط لهم من سماء نابولي الصافية في نهار تموزي رائق. كانوا ينشدون نشيداً يملأ القلوب بصوت واحد.. رأيت مارادونا رأيت مارادونا.

 

من عادة النابولتيين أن يطلبوا قهوةً معلقة، كأن يكونوا ثلاثة فيطلبون خمسة فناجين ويتركون اثنين لمن لا يملك المال، فيأتي لاحقاً رجلٌ يطلّ من النافذة ويسأل: هل يوجد قهوة معلقة؟ بيرة معلقة؟ فيشير له صاحب المكان بيده: تفضل.. برفرير..برفرير.

سمعتهم يغنون آخر الليل ويميلون كموج البحر أغنيتهم الشهيرة التي يغنونها في الملاعب لفريقهم:

ولكن أين يذهب البحارة مع السترات البيض؟

دوماً يبحثون عن قتالٍ أو بازار

ولكن أين يذهب البحارة مع وجوههم المتعبة؟

دوماً سيجدون طفلاً لتقبيله..

ولكن ماذا يفعل البحارة عندما يصلون إلى الميناء؟

سيذهبون للحب في مكان ما..

لشخصٍ محظوظٍ ما زال على قيد الحياة

لآخرٍ مات، لأرملته..

هنالك دوماً أرملة تزار ويدق بابها

ولكن أين يذهب البحارة الأوغاد الحكماء

مع هذا الملل الذي يقتلهم؟

قد يغفون على الجسر

أو على الأرض

في القاع من الأسى..

إنها مدينةُ مجنونة، مدينة تستحق أن تفوز بكل شيء، بقلوبنا والدوري الإيطالي وأطيب بيتزا في الكوكب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.