مشاهدات الدراما العنيفة على المنصات.. تفريغ للطاقة أم رغبة في الحياة بعالم موازٍ؟

 

4 يوليو 2022

رغم التحذيرات والمخاوف العالمية من تأثيره السلبي نتيجة تضمنه على العديد من المشاهد الدموية العنيفة، إلا أن نتفليكس أعلنت رسميا مؤخرا، إنتاج جزء ثان من المسلسل الكوري “لعبة الحبار – Squid Game“، الذي حقق أعلى نسبة مشاهدة في تاريخ المنصة تقدر بـ 1.6 مليار ساعة مشاهدة وفقا للإحصائيات المعلنة عبر موقعها الإلكتروني.

برر المخرج هوانغ دونغ هيوك، الإصرار على إنتاج جزء آخر من “لعبة الحبار” بأن المعجبين بالعمل لم يتركوا له خيارا آخر سوى التحضير لجزء جديد، بحسب موقع radiotimes-com، فيما صرح لوكالة “يونهاب” الكورية بأن أعمال العنف التي يتضمنها المسلسل ما هي إلا مشاهد نابضة بالحياة لكنها مجازية واستعارية، لأنها محاكاة لأشخاص يواجهون طريقا مسدودا بعد فشلهم في التكيف مع مجتمعهم، موضحا أن الفائز الأخير في المسابقة لم يفقد إنسانيته تحت ضغط الحياة والموت الذي تعرض له ولم يُغريه المبلغ الكبير الذي فاز به، لذا أظهر تعاطفه مع المتسابقين الآخرين.

موضة الدراما العنيفة!

نجاح العمل ونسب مشاهدته العالية لم تقتصر على السوق الغربي فقط، إذ حاز على شعبية كبيرة بين الجمهور العربي أيضًا، حيث أكد تقرير نُشر عبر موقع “فوربس” أن “لعبة الحبار” جذب ملايين المشاهدين في الشرق الأوسط خاصة في المملكة العربية السعودية والكويت وقطر والأردن ومصر وغيرها، وهذا ما يمكن وصفه بأنه ظاهرة جديدة بالنسبة لتفضيلات المشاهدين العرب الذين اعتادوا في السنوات السابقة الانجذاب للأعمال الأوروبية والأمريكية والهندية، لكن مؤخرا تشعبت هذه التفضيلات لتشمل ثقافات أخرى كالكورية والإسبانية والتركية وغيرها.

لعل أبرز هذه الأعمال التي نالت شعبية واسعة في الوطن العربي والعالم ككل، المسلسل الإسباني “البروفسير – La Casa de Papel” الذي تم تقديم نسخة كورية جديدة منه مؤخرا ، تضمن أيضا العديد من المشاهد العنيفة، لدرجة أن الموسم الرابع تم وصفه بأنه أكثر عنفا من المواسم التي سبقته، حيث كتب موقع “digital spy” أن ما كان في الأجزاء الأولى معركة ذكاء ومهارة أصبح معركة وحشية، لكن رغم ذلك استمر الجمهور في متابعة المزيد من حلقاته، حيث أكد موقع “gadgets360” أن الموسم الخامس شاهده 65 مليون شخص في الأربع أسابيع الأولى من طرحه، موضحا أنه يعد رقما قياسيا في تاريخ منصة نتفليكس، هو أمر تحقق بشكل أو بآخر مع أعمال أخرى تميزت بأن العنف فيها كان سيد الموقف وبينها بالطبع “ Game of Thrones” من HBO بمواسمه، ومسلسلات أخرى مثل “ Peaky Blinders“، و” Breaking Bad“، و” Fargo“.

فالأعمال التي حققت شعبية في الفترة الأخيرة عربيا وعالميا أغلبها يصنف على أنها عنيفة بشكل مبالغ فيه، وهذا ما فسره الناقد الفني رامي عبد الرازق لـ “هي” بأن الأعمال التي تظهر على المستوى العالمي أو الدولي وتحقق انتشارا كبيرا، عادة ما يكون ذلك مرتبطا بسبب ما في اللاوعي الجمعي مثلما حدث في “لعبة الحبار”، الذي ربما إذا عرض قبل أزمة كورونا ما كان ليحقق نفس نجاحه حاليا، موضحا أن الأزمة التي عاشها العالم وقت الجائحة وعانى فيها الكثيرين من ألم الفقد والخوف من الموت، ارتبطت بكم الدم والموت في المسلسل الكوري، لذا فالعمل كان أشبه بتفريغ لتلك الطاقة السلبية المُخرنة في أذهانهم وعقلهم الباطن، معلقا: “كأنهم بيقولوا مابقيناش بنخاف لا من الموت ولا الدم ولا أي حاجة”.

تأثير الثقافات الجديدة على السوق العربي

لكن هل يمكن لتلك الثقافات الجديدة التي أصبحت ضمن تفضيلات شريحة كبيرة من الجمهور العربي أن تؤثر مستقبلا على السوق في المنطقة؟

أوضح الناقد الفني ماهر منصور، في تصريحاته لـ “هي” أن العالم اليوم يشهد اختلاطا غير مسبوق للثقافات، وإن كنا اليوم لا نشعر بحجم المنافسة مع تواضع نسبة مشتركي المنصات التي توفر المحتوى التلفزيوني والأفلام عبر الإنترنت عند الطلب، إلا أن المنطق يفترض أن سوق الأعمال العربية سيواجه يوما تلك المنافسة التي قد تقصيه ما لم يمتلك أسباب المنافسة الفنية ويتمسك بأصالة المحتوى الذي يتضمن البصمة الحيوية للمشاهد العربي من عادات وتقاليد ومعتقدات، أي أنه لن يكون مطلوبا وقتها تقليد محتوى الثقافات الأخرى وتقديم عمل يشبه “لعبة الحبار” على سبيل المثال، وإنما سيتطلب الأمر مواجهته بمحتوى عربي أصيل.

اتفق رامي عبد الرازق، مع الرأي السابق وقال إن تلك الأعمال الجديدة التي اقتحمت مجتمعنا العربي يمكن أن تؤثر بالطبع على تفضيلات الجمهور لأنه يبحث في الأساس عن الاستمتاع والقيمة الإنتاجية والموضوعات المختلفة، وذلك في ظل هشاشة كثير من الإنتاجات الدراما العربية التي في بعض الأوقات تكون ضعيفة ومكررة، خاصة مع انقطاعنا عن الاستعانة بالروافد التي يجب أن نبرزها في الدراما التلفزيونية كتحويل نص أدبي لعمل فني مثلما كان يحدث في ستينيات وسبعنيات وثمانينيات القرن الماضي.

وأشار “عبد الرازق” إلى أنه لا يصح أن نعلق عدم قدرة أعمالنا على المنافسية عالميا على “شماعة” اختلاف ذوق الجمهور ما لم نقدم له أعمال بمستوى يجذبه ويمتعه.

علاقة الأعمال الفنية بالسلوك المجتمعي

وعما إذا كان من الممكن أن يؤثر المحتوى ذاته خاصة العنيف على سلوك أو تفكير واتجاه المشاهد العربي أم لا، قال الناقد الفني كمال رمزي لـ “هي” إنه لا يعتقد ذلك، ففي رأيه لا يمكن لهذه الأعمال أن تؤثر على المجتمع العربي أو حتى مجتمعاتها الأصلية كالكوري أو الأسباني أو أي مجتمع آخر، لأن أي عمل ينتمي لهذه النوعية يتضمن في محتواه رسالة ضمنية تحذر من عواقب العنف أو الجريمة.

وأكد رمزي أن إلقاء مسؤولية انتشار السلبيات في المجتمع على عاتق الأعمال الفنية يعبر عن كسل عقلي وميل للمراوغة وعدم اعتراف بالواقع، لأن جميع الإنتاجات الفنية في العالم كله خاصة في السينما لم تبشر بالعنف ولم تشير إلى أن العنف سيد الأخلاق، لأنها دائما ما كانت تنتهي بما يؤكد على أن ثمن العنف غالي للغاية، لذا يجب أن نبحث عن أسباب أخرى ساهمت في ذلك، ربما انعدام الطموح عند الشباب، أو الجهل بالقانون، أو التربية الخاطئة، أو سبب نفسي أو اجتماعي أو فكري، علينا أن نبحث على الأسباب الموضوعية ولا نلقي اللوم على الأعمال الفنية.

نفس الرأي كان للناقد الفني طارق الشناوي، الذي أكد لـ “هي” أنه من السهل إلقاء اللوم على السينما والتلفزيون واتهامهما بأنهما سبب انتشار الجريمة والعنف، وهذا ليس أمرا جديدا بل إنه يتكرر عبر الأزمنة سواء في مصر أو العالم كله، لكن إذا ما جئنا لنحلل هذه الأعمال التي تقع في طائلة هذه الاتهامات لن نجد سوى أنها تعلي من شأن أخذ الحق بالقوة.

وضرب “الشناوي” مثالا على ذلك، حيث استشهد بقصة “ريا وسكينة” التي راح ضحيتهما عدد كبير من النساء، لافتا إلى أن السينما في ذلك الوقت لم تكن قد انتشرت في العالم كما هو الحال حاليا، إلا أن جينات العنف والخروج عن القانون كانت متوفرة بكثرة، على حد وصفه.

فيما علق رامي عبد الرازق، قائلا إنه لا يمكن أن نلقي اللوم على الدراما التلفزيونية أو الأفلام السينمائية سواء بشكل كامل أو جزئي، لأنها في الغالب تُشاهد من قِبل أشخاص يتمتعون بوعي كاف لإدراك أن ما يشاهدونه محض تمثيل، مؤكدا على أن الأسر قديما اعتادت قبل ظهور تصنيفات الأعمار أن توضح لأبنائها أن ما يعرض أمامهم ما هو إلا تمثيل يقدمه فنان سيظهر في أعمال أخرى حتى وإن تعرض للقتل في عمل ما، باعتبار أن كل ذلك غير حقيقي.

تابع، أن الحالة التي يخلقها العمل لحظة عرضه تسمى “إيهام” وبمجرد أن تنتهي مدة العرض يخرج المشاهد من تلك الحالة ويتعامل مع ما بقي بداخله من أفكاره ومشاعره وليس أفعال، لذا ما يبقى مع المتلقي هو الفكر والمشاعر وليس الفعل في حد ذاته.

رأي رامي عبد الرازق، لم يختلف كثيرا مع ما قالته الدكتورة مديحة الصباح، مدير إدرة البروتوكولات والمراسم بالمركز القومي لثقافة الطفل بوزارة الثقافة المصرية، لـ “هي” بل يمكن وصفه بأنه تطابق معها، حيث قالت إنه يجب عدم الزج بالفن في كل الأمور لأنه القوى الناعمة التي تعرض القضية وتحاول لفت النظر إليها، فالجريمة قديمة منذ مولد البشرية وقبل أن يخلق الفن في الأساس، لذا لا يجب اللعب بمتلازمة “الفن الذي يُصدر العنف أم الواقع الذي يُصدر الجريمة للفن”.

تابعت “الصباح” أن الناس أكثر وعيا من أن يوهمهم الفن بأي شيء لكنهم قد يتفاعلون مع شخصيات درامية وهذا شيء منطقي.. متسائلة: إذا كان الفن يعلم الجريمة فلماذا لم يتحول كل المجتمع إلى قتلة ومجرمين؟، هذا يعني أن الأشخاص الذين يتفاعلون بشكل مرضي مع بعض الأحداث والشخصيات في الفن وتخرج منهم طاقات هدامة ورغبات في الانتقام والعنف، هي شخصيات بطبيعتها مختلة نفسيا ولديها ميول إجرامية.

قوة الدراما ومدى تأثيرها

رغم اتفاق الأربع آراء السابق ذكرها، على أن كل الأعمال الفنية بريئة تماما من الاتهامات التي تلقى على عاتقها بشأن تسببها في تغير سلوكيات مشاهديها ودفعهم لاتكاب أفعال عنيفة قد تصل للجريمة، إلا أن ماهر منصور، كان له رؤيته الخاصة التي اختلفت معهم، حيث قال إنه لا يمكن حصر سبب الجريمة والعنف في المجتمع بالدراما أو السينما وحدها، لكن يجب في المقابل ألا نتجاهل تأثيرهم لاسيما في المجتمعات العربية التي يقترب عدد الأمّيين فيها من 69.5 مليون أمّي وأمّية، وتتراجع معدلات القراءة فيها إلى أقل من 6 دقائق يوميا -في أكثر المؤشرات تفاؤلا- حسب إحصائيات عام 2021.

أوضح “منصور” أنه وفقا للإحصائيات السابقة فإن التلفزيون سيصبح مصدر الثقافة والمرجع الأساسي في تقييم العلاقة بالآخرين وأنماط سلوكهم وبناء تصوراتهم عن المستقبل، مشيرا إلى أنه إذا أخذنا بالاعتبار أن واحدة من الطرق التي يؤثر فيها التلفزيون على الاحتياجات العاطفية للمشاهد هو الانغماس في الحكاية من خلال المشاركة العاطفية لإحدى الشخصيات فهنا يكتمل فهمنا للممارسة الدرامية كقوة تأثير اجتماعية وثقافية، وبالتالي فلننظر إلى ما تقدمه الدراما اليوم لنحدد مسؤولياتها في انتشار الجريمة والعنف.

فن البارودي ومسلسلات العنف

رغم تأكيد البعض على أن الأعمال الفنية لا يمكن أن تؤثر في المجتمع، واختلاف البعض الآخر معهم، إلا أننا نجد في كثير من الأحيان أشهر الأعمال الفنية الناجحة يتم تناولها في أعمال أخرى بطريقة هزلية أو تداول سيرتها بين الجمهور خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل ساخر فيه استخفاف بقساوة المحتوى مثلما حدث مؤخرا مع مسلسل “لعبة الحبار” -على سبيل المثال- الذي تم تناول قصته بطريقة كوميدية على مدار عدة حلقات ضمن مسلسل “الكبير أوي 6″، الذي عرض بموسم رمضان 2022.

علق كمال رمزي، على ذلك قائلا إن السخرية من الأعمال هو فن قديم يُدعى “البارودي”وهو المحاكاة الساخرة للأعمال التي لاقت صدى واسعا، ولعل أبرز مثال على ذلك أعمال ألفريد هيتشكوك التي تم تحويلها لكوميديا، إذ أن أعمال البارودي تؤكد على أن العمل الأصلي هو خيال في خيال، ومن أبرز الأمثلة في السينما المصرية فيلم “عفريت مراتي”، للفنانة الراحلة شادية.

وأشار رامي عبد الرازق، إلى أن أعمال البارودي لا تقلل من نجاح العمل الأصلي، والدليل على ذلك أعمال الفنان الكبير الراحل فؤاد المهندس التي سخر فيها من أعمال جيمس بوند، فكلا العملين حققنا صدى واسعا، لافتا إلى أن أشهر فنان يشتهر حاليا بتقديم ذلك الفن هو أحمد مكي، الذي كرر ذلك في عدة أعمال من بينها “لا تراجع ولا استسلام”، و”سيما مصر”، و”الكبير أوي”.

فيما لفت إلى أن هناك شرط هام للغاية لنجاح أعمال البارودي، وهو أن يكون الجمهور على اطلاع بالعمل الأصلي، فمثلا مشاهد السخرية من سلسلة “حرب النجوم”، في مسلسل “سيما مصر”، لم تلق نجاحا كبيرا نظرا لاختلاف نوعية الجمهور الذي لم يشاهد العمل الأصلي في الأساس.

واختتم الحديث مؤكدا على أن كم السخرية الذي لاقاه “لعبة الحبار” في الفترة الماضية، لن يمنع انتظار الجمهور وتشوقه لمتابعة الجزء الثاني الجاري إعداده.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.