مستشرقون و”مستغربون”

أدهم عامر

 

المستشرقون:

لنتفق على أنهم الباحثون والعلماء الغربيون الذين عكفوا على دراسة الشرق وعلومه وآدابه وتراثه، ومعظمهم عاشوا في مختلف البلدان العربية والإسلامية، وتبحّروا في لغاتها، وحاولوا إضاءة خصائص المجتمعات الشرقية في محاولات لاكتشاف الظاهر والمخبوء في هذه المجتمعات.

 

“المستغربون”:

وهو مصطلح أستخدمه شخصياً، وقمت بنحته لأقصد فيه موجات المهاجرين واللاجئين الذين تقطعت بهم السبل، فهربوا من جحيم الفقر أو الحروب في بلدانهم التي ما زالت تحتفل سنوياً بذكرى الإستقلال -دون أن تتمكن أي منها- من بناء دولة بالمفهوم السائد عن الدولة، ككيان مؤسسي يحفظ حقوق الناس ويصون كراماتهم.

والوصف فيه من التباسات المعنى ومجازاته ما يكفي ليليق بهؤلاء، فهم تغربوا “غرباً”، وهم أيضا مثار الاستغراب بتناقضاتهم الداخلية، وهم أنفسهم يستغربون من كل شيء يُفترض أن يكون طبيعياً وإنسانياً حولهم.

أشاهد يومياً وبحسرة، العشرات ، بل والمئات من هؤلاء “المستغربين” الذين يتسكعون على الأرصفة، وفي مقاهي مدن دول اللجوء التي استقبلتهم، بعد أن لفظتهم بلادهم التي عجزت عن تأمين الحد الأدنى من مقومات البقاء- طبعاً لا نستطيع أن نُنحي باللائمة بشكل كامل على القيادات السياسية – على اعتبار أنها ليست كيانات غريبة عن المجتمعات التي تحكمها، فهي أولاً وآخراً “مُنتج محلي” يعكس أخلاق وعادات شريحة لا يُستهان بها من هذا المجتمع، على مبدأ، ( كما تكونوا، يُولّى عليكم )

ذات نزهة في برلين، شاهدت شاباً ذا ملامح شرق أوسطية، حاول ركل حمامة في الشارع العام، ففرت مذعورة، حصل هذا المشهد المفزع وسط اشمئزاز ودهشة الناس من مختلف الجنسيات، وفي مرة أخرى تبارى ثلاثة من المراهقين العرب الصاخبين، على شد وتكسير أغصان شجرة صغيرة في الشارع العام، وكانت قهقهاتهم مسموعة بوضوح إلى الشارع المقابل، أما إذا أردت مشاهدة العروض الحية للمخالفات بالجملة، فما عليك سوى التوجه لشارع العرب ( كما يسمونه في برلين ) .

لكن بالنسبة لي، فقد تجلى التباين في الموروث المعرفي والثقافي عندما سألتني السيدة الألمانية المسّنة التي جلست بجانبي في القطار والإبتسامة تعلو وجهها، إن كنت لا أمانع بإغلاق الشباك، لأنها تشعر بالبرد، ثم شكرتني عندما أغلقته، وأخرجتْ شالاً صوفياً، أحاطت عنقها به، فوقع منه خيط صغير على الأرض، فانحنت والتقتطه بصعوبة، ثم وضعته داخل حقيبتها  ثم نظرت لي وقالت: لا أتخيل أن أرمي حتى هذا الخيط على الأرض، لا أستطيع هذا! وعلت وجهها مسحة من الكآبة، ثم سرحت بنظرها بعيداً وقالت: ألمانيا تغيرت كثيراً.. ليست ألمانيا التي أعرفها !.

شعرت بالإحراج … لكن الصدفة أنقذتني، لأنني سأنزل بعد ثوانٍ في المحطة التالية، وذلك قبل أن تكتشف من ”لكنتي، وثقل لساني” بأنني محسوب من الذين رماهم القدر في هذه البلاد الجميلة، فأثخنوا فيها!

( الفجوة الحضارية ) التي تفصلنا عن المجتمعات المتقدمة، تساهم في تكريس حالة التأزُّم والإحباط التي يعيشها “المستغربون” الذين لا يجدون ما يفاخرون به، إلا ما جادت به قرائح المؤرخين من مفاخر مشكوك بها، إضافة إلى أنها فيما لو صدقت، فإنها صالحة لزمانها ومكانها، ولا يمكننا القياس ولا البناء عليها، فالحماسة والفروسية مثلاً، لن تؤسس للمستقبل الذي نحلم به، وحكايا شهريار والزير سالم المهلهل، وأبو زيد الهلالي، التي ما تزال تلاقي إقبالاً ورواجاً، ليست سوى أعراض لأمراض مزمنة ومستعصية على الحل الذي لا أجده إلاّ بإعمال مبضع جراحين لا يساومون في جسد هذه الأمة التي أنهكها الموروث الثقيل، بحيث يكون تشريح الواقع المزري واجتثاث مكامن العفن فيه، جُلّ أهدافهم واهتماماتهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.