كيف تصنع تحفةً من التفاصيل.. فيلم “إيميلي” نموذجاً

مراجعة: رند قنّب – كاتبة وصحافية سورية

يبدأ الفيلم إيميلي بمشهدٍ شاعري ألا وهو، طاولة مطعم فارغة تحمل كأسيين من النبيذ وتتطاير بالهواء. هكذا افتتح جون بيير فيلمه مكملًا مشهدًا بالصديق العائد من الجنازة

ليمسح اسمه من دفتر العناوين، فالفيلم عبارة عن تجسيد حقيقي وأحيانًا خيالي للحياة الحالية في باريس في حي مونتمرتر.

تبدأ افتتاحية القصة إيميلي بطريقةٍ مختلفة وبداية جميلة ومضحكة “بذكر حيوان منوي يحوي كروموسوم إكس واحد يعود لرافائيل بولا يسرع نحو بويضة زوجته”.

ليكمل جون واصفًا شخصياته بأدق تفصيل وكأنه يكتب نصًا روائيًا، فتارةً يصف شفاه رافائيل وتارةً يصوّر لنا زوجته التي تكره ملامسة الأشخاص. راسمًا شخصياته كفنان الرسومات شكلاً وأفعالاً كقائد جوقة موسيقية.

ليصل جون إلى المشهد المحوري الّذي يقلب حياة إيميلي، وهو عندما ينبض قلبها بسرعة من الفرح لمعانقة أبيها لها للمرة الأولى، ويمكن القول أنَّ المخرج يجسد لنا مشهدًا بغاية الضحك والأسى، حيث يظنُّ الأب الساذج أنها تعاني مرضًا قلبيًا، ليقرر تركها في المنزل معزولة بلا أحد، وتتلقى تعليمها على يد أمها وتصبح وحيدةً دون أصدقاء.

وهنا تبدأ رحلة جديدة من الخيال وتقفي الآثار وملاحظة التفاصيل، فمثلًا يوجد هنالك جارٌ مزعج هو وادعاءاته بأنها سبب الشؤم، فنرى الطريقة الفكاهية التي جسدها المخرج بصعود إيميلي على السطح المنزل وفصل جهاز إرساله التلفزيوني الذي يبث مباراة مهمة، وتستمر حياة إيميلي الطفلة هكذا، وهي مملوءةٌ بملاحظة التفاصيل، إلى أن تموت أمها بسبب حادثة انتحار، مما يجعل تبقى مع والدها منتظرةً أن تبلغ ثماني عشرة سنة لترحل، وتبدأ العمل في مقهى بسيط يضم شخصيات جديدة.

ومن أهم هذه الشخصيات سوزان صاحبة المقهى العرجاء، والتي تضحكنا بقصتها الهزيلة ولنتفأجأ بالسبب الذي جعلها عرجاء متحدثة بكل الفخر بأنها كانت تمارس الحب مع خليلها في المزرعة فوقع عليها الحصان، وجوزيف المراقب مهووس النساء، وهنا أيضًا جورجيت المهووسة بالأمراض، ولا ننسى وجود الكاتب الفاشل صاحب مقولة: بدونك ستكون عواطف اليوم القشرة الميتة لقشرة الأمس“.

في هذا الفيلم يعرّفنا المخرج على عمق حب الأشياء الصغيرة مصورًا سعادة بعض شخصيات الفيلم حائكًا تفاصيل قصته بعناية، ليصف إيميلي ومدى استمتاعها بالأشياء البسيطة التي لا نراها ونقدّرها كمشهد سينما يُجسد بثوانٍ ساحرة بنظرة إيميلي للناس في أثناء الظلام، لنرى عدسة مخرجنا دائمًا مسلطة على تفاصيل وجهها وحركاتها، مما زاد تعلقنا بالشخصية إيميلي في هذا المشهد، لننتقل إلى مشهد ملامسة يدها للحبوب وغيرها.

ودعونا لا ننسى الموسيقا التصويرية الجاذبة بمشاهد عدّة، مثل مشهد تحضير إيميلي كعكتها المفضلة وافتتاحية المشهد الأول. ليكمل اهتمامه بتفاصيل لباس شخصيتنا، فنرى إيميلي ترتدي فساتينًا بسيطة بألوانٍ زاهية وساحرة، بشعرٍ قصير ليحافظ على ملامح الشخصية وإيماءاتها، وقد كان المبدأ العام للشخصيات.

تصل ذروة أحداث القصة عندما تجد إيميلي علبة لمستأجرٍ قديم في الحمام /كنز طفولي/ مما جعلها مذهولة بخبر موت أميرة ديانا فتقرر البحث عنها لإعادتها، وتقرر قرارًا بأنه إذا تعرّف صاحب الكنز على العلبة فتساعد الناس، فيتعرف فعلًا صاحب العلبة على كنزه باكيًا.

ومن هنا تبدأ رحلة إيميلي بمساعدة الناس من حولها وأولهم الأعمى الذي أمسكت بيده طوال الطريق وهي تروي له أشكال الأشياء بعناية وهي تبتسم وتضحك وتشعر بسعادة لا حدود لها، وتلمع برأسها فكرة مساعدة جيرانها أيضاً، كجارتها التي تنتظر زوجها ومات، فتكتب رسالة على أنها مرسلة منه، لترقص الجارة فرحًا فوق نيران الشوق، لينقل لنا المخرج أنَّ إيميلي الفتاة التي عاشت وحيدة وجدت الألفة في عشرات الأشياء الصغيرة.

وبعدها تراقب إيميلي جارها الرسام صاحب العظام الزجاجية كل اليوم، وترسل إليه فيديوهات عن الحياة الخارجية، رسمة على وجه العجوز، ابتسامة مريرة، مستكملةً رحلة مساعدته  بملحوظاتها الذكية عن لوحاته ورسمه لفتاة صاحبة الكأس والتي تكون هي باعتقادها.

كانت إيميلي ترى العجوز يشبهها لحدٍّ ما بوحدته بفارق وحيد وهو العظام الزجاجية التي أدخلتها كهف الوحدة.

الكاتب والمخرج جون اعتمدا على التفاصيل كأسس في بناء الحكاية، فنرى إيميلي كيف احتالت على جورجيت وجوزيف فأُعجبا ببعضهما بعضًا، وكيف بدأ انتقامها من صاحب خضروات بجعله يشك بصحة سلامته العقلية عقاباً على تنمره لمساعده الغبي، إلى الآن يحصل ما حصل وتصدف إيميلي شابًا غريبَ الأطوار يجمع قصاصات الصور.

هنا تمامًا تبدأ رحلة الصراع بين الحب وشخصية الفتاة الانطوائية، فاشتدَّ العشق والتوق للقاء في القلب إيميلي لشابٍّ لا تعرفه لأنها لم تسلك الطرق المعتادة للتعرف إليه، وحينما حانت الفرصة للتقرب منه لفتت أنظاره إليها بطريقتها الخاصة، بطريقة إيميلي بولان، واعتمدت طريقتها على التنكر بلبس أزياء مختلفة، واستخدام الحيل لترتيب ميعاد للقاء، وطرق إثارة فضول هذا الشاب تجاه فتاة رآها مراتٍ عديدة مصادفةً.

كل هذه الأشياء قامت بها إيميلي كشابة منطوية، وخائفة من الناس، عاشت في الخيال أكثر مما عاشت في الواقع، ما قادها لخوض مغامرة ممتعة، هدفها أن تنال إيميلي الحب الذي عاشت وهي تتمناه لسنواتٍ تراهن نفسها على أنَّ مصادفة   وقوع كتاب قصاصات الصور ستخلق الحب، فتقرر إرجاعه بأسلوبها واحتيالاتها، خائفةً من اللقاء والوقوع في فخ المشاعر.

وفي إحدى المشاهد يستلم الشاب كتابًا بعد حيلة التماثيل التي وفرت لإيملي فرصة الهروب، وتصبح حزينة على نفسها وترددها، فهي لا تريد أن تنغمس في رثائها للذات طويلًا،   تنهض في الصباح التالي بمزاجٍ أفضل، وقلبٍ صافي فهي فتاة بسيطة لا تريد من الحزن أن يخيم على حياتها.

 

لكنه ليعود عندما تشكّ بأنّ الفتى الذي يُعجبها قد تعلّق بأخرى، وترجع الحياة لتظلم أمام عينيها، حتى عندما سألتها جارتها “هل تؤمنين بالمعجزات؟” تُجيبها قائلة: “ليس اليوم”. وكأنّها ستؤمن بها غدًا، كما آمنت بها أمس، وكأنّها فهمت أخيرًا أنّنا حينما نحظى بيومٍ سيئ ليس معناه أننا سنحيا حياة سيئة.

ولا يوجد أجمل من مشهد ما قبل النهاية، الذي تبكي فيه إيميلي حُزنًا، بينما هي تخبز كعكتها المُفضلة، لذلك لا يوجد أفضل من هذه النصيحة في هذه النقطة: “حينما تكون حزينًا قم بخبز كعكتك المفضلة”.

ويصلها فيديو لجارها صاحب العظام الزجاجية قائلاً لها أنَّ عليها خوض صراعها مع الحياة بطريقةٍ طبيعية، أن تقاوم وأن تحارب لتحصل على ما تستحق.

فالخوف الأعمى يشلّ البدن، ويمنعنا من الاستمتاع بالحياة، وخوض التجارب الجديدة، فكان طبيعيًا من إيملي التي عانت من الوحدة أن تخاف، ولكن كاد الخوف أن يُفقدها حبيبها، حتى نصحها العجوز بأن تغتنم الفرصة، التي إن ذهبت فلن تعود.

وهذا ما فعلته إيميلي، اقتنصت الفرصة التي أهدتها سعادة لم تتخيلها أبدًا.

واختتم العجوز حديثه قائلًا: “بكل بساطة ايميلي، عظامك لم تُصنع من الزجاج، يمكنكِ الاستمتاع بالحياة، لكن إذا تركتِ هذه الفرصة تمر، فقلبك سيصبح جافًا وهشًا مثل هيكلٍ عظمي. لذا اذهبي واحصلي عليه لأجلِ الحياة”.

تاريخ الفيلم: 25 أبريل 2001 فرنسا
المخرج: جون بيير جونيه 
الموسيقى من تأليف: يان تيرسين
السيناريو: جون بيير جونيه، غيليوم لوران
مدة العرض: 122 دقيقة
بطولة: أودري تاتو، ماتيو كاسوفيتز، لوريلا كرافوتا، سيرج ميرلين
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.