في ذكرى أيقونة الأدب الأفريقي -أشرف أبو اليزيد

حضور الروائي تشينوا آتشيبي في النقد العربي

23 مايو 2023

أشرف أبو اليزيد – كاتب وصحافي مصري

لن نقرأ عن الأدب الإفريقي، في مصر، والعالم العربي، إلا وتفضي بنا الطرق جميعها إلى الناقدة والروائية الراحلة الدكتورة رضوى عاشور، ولن يتناول باحثٌ الأدبَ الأفريقي غير العربي دونما الرجوع إلى كتاب رضوى التأسيسي (التابع ينهض)، الذي تناول الرواية في غرب أفريقيا، وتقول في تمهيد له، “هذا بحث في موضوع غير مطروق في النقد العربي إلا في أضيق الحدود، فليست هناك أية دراسات تتعرض للرواية الأفريقية عدا دراسات معدودة تتناول هذه الرواية أو تلك بالتلخيص والتحليل والقضايا التي تطرحها دراسة من هذا النوع ليست بعيدة عن الشواغل اليومية للقارئ العربي والمشاكل التي يواجهها الكتاب الأفريقيون، سواء كانت مشاكل سياسية ناجمة عن الواقع الاستعماري ووليدة مرحلة التحرر الوطني أو مشاكل إبداعية متصلة بموقف الكاتب من تراثه الثقافي والتراث الأدبي الأوروبي الذي أنتج الشكل الروائي، مشاكل تجد نظيرا لها لدى الكتاب العرب، وكان الدافع وراء اختيار غرب أفريقيا اشتراك مجتمعاتها في واقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي إلى حد بعيد، مما يسهل على الدارس تناول الإنتاج الروائي لكتابها في دراسة واحدة دون السقوط في التعميم أو التبسيط المخل”.

شهدت منطقة غرب أفريقيا زخما إبداعيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية جعلها من أكثر مناطق القارة عطاء، وجعل كتابها يشكلون النسبة الغالبة بين الكتاب الأفريقيين الذين يكتبون بالإنجليزية والفرنسية فضلا عن قناعة عميقة لدى الباحثة بضرورة الاتصال الثقافي بين بلاد العالم الثالث عموما، والقارة الأفريقية بشكل خاص، ليس فقط لما تواجهه هذه البلاد من مشاكل مشتركة وتطلعات مماثلة، ولكن أيضا لما في فنونها وآدابها من قيم تحررية وإبداعية تجعل منها روافد قوية وجديدة تصب في نهر الثقافة الإنسانية، كما إنه حري بنا – تقول رضوى عاشور – نحن نقاد ودارسي الأدب في بلاد هذا العالم الثالث أن نتعرف ونعرف الآخرين بهذه الروافد الغنية، وجامعاتنا خليقة بأن تضطلع بمهمة تدريسها ونشرها بين الطلاب لإعداد جيل من المترجمين والباحثين والنقاد في هذا المجال.

تضع د. رضوى عاشور لكتابات النقدية الغربية عن الأدب الأفريقي ضمن اتجاهين واضحين؛ أبواق المؤسسة الثقافية الإمبريالية الذين يمارسون نوعا من الإرهاب الثقافي يتبدى في الإعلاء من شأن كاتب والحط من شأن آخر بلا وجه حق، بل لأغراض سياسية في نفوسهم، مثل رواية الكاتب المالي يامبو أو لوجوم «واجب العنف» (١٩٦٨) التي هلل لها النقاد ووصفها البعض منهم بأنها أول رواية أفريقية بحق، رغم أنها تدعي أن هذه القارة كانت دائما مسرحا للعنف، وأن التجربة الاستعمارية لم تأتِ بجديد ولم تكن أسوأ مما قبلها وتصور الرواية الشخصية الأفريقية على أنها شخصية شهوانية دموية لا تزيد حياتها عن كونها سلسلة من العنف والفحش.

أما الاتجاه الثاني فيتمثل في الكتابات النقدية التي يجتهد أصحابها في تقديم وفهم وتقييم الأدب الأفريقي ونلاحظ بالرغم من ذلك أن معظم هذه الكتابات تسقط في إطلاق أحكام نقدية خاطئة بسبب الموقف السياسي المحافظ للناقد الذي يأبى أن يتعامل مع أدب سياسي إلا على أساس أنه أدب دعائي.

كانت الروايات التي تناولتها د. رضوى عاشور غير مترجمة، فاضطرت لتخليصها للقراء العرب، عدا رواية واحدة هي ( الأشياء تتداعى) للروائي النيجيري تشينوا آتشيبي التي صدرت عام 1962 في بريطانيا وكانت أول رواية تنشر ضمن سلسلة “كُتّاب أفارقة”، وبعد ترجمة الرواية إلى العربية في نسخة الدكتورة إنجيل بطرس سمعان عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1971، ترجمها سمير عزت نصار عن الدار الأهلية، وترجمها أحمد خليفة عن مؤسسة الأبحاث العربية عام 1990، وأخيرًا أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة آفاق عالمية في مصر ترجمتها من جديد عام 2014 بقلم عبد السّلام إبراهيم، ضمن مشروع “المائة كتاب”. ومن النادر أن تحظى رواية غير أوروبية وأمريكية بهذه الترجمات المتعددة، حتى أن العنوان استلهمه الكاتب حنين الباشا في عمله له صدر عن مركز الادب العربي في 2017، ولم لا وهو العنوان نفسه الذي استلهمه آتشيبي من بيت في قصيدة الشاعر ويليام بتلر ييتس، التي يقول فيها بترجمة جاد الحاج:

“الصقر يحوقل، يحوقل في الدائرة الواسعة

ولا يصغي لسيّده.

الأشياء تتداعى” المركز لا يصمد”

لا شيء عدا الفوضى تروم العالم،

وهيبة البراءة غريقة في كل مكان.

أفضل البشر بحاجة إلى الإيمان، والأشرار يستمرون

بالحماسة اللاهية.

حقاً، أنها رؤيا الكسوف تقترب

حقاً، انها العودة الثانية تقترب

العودة الثانية! ما أن أقول ذلك

تبهرني رؤيا عظيمة تصعد من الروح الأعلى

وفي القفر فوق رمال الصحارى

يتبدى رأس إنسان على جسم أسد،

يحملق زائفاً، بلا شفقة كالشمس

يحرك أردافه ببطيء بينما تحلّق حوله

ظلال العصافير الموتورة في الصحراء.

ولا ننسى أيضا جهد دكتور علي شلش في كتابه عن “الأدب الأفريقي”، الصادر في سلسلة عالم المعرفة، والذي اتخذ من النيجيري  أتشيبي، في غرب أفريقيا، والكيني اثيونجو من شرق القارة، لأن كليهما يمثل منطقته خير تمثيل، فضلاً عن أنهما أكثر هؤلاء الكتاب تأثيرا وصيتا أيضا. وقد شبه بطل “الأشياء تتداعى” Things Fall Apart  تلك الشخصية المأسوية، بشخصيات التراجيديا الإغريقية التي تظهر مرة أخرى ولكن بصورة مختلفة في رواية أتشيبي الثانية التي تتصل بزميلتها من نواح كثيرة، وإذا كانت الأولى تتدرج زمنيا من البداية إلى النهاية، فهذه تبدأ بالنهاية، ثم تتدرج عوداً إلى الماضي حتى تصل إلى البداية.

لقد كان (التابع ينهض) هو الشعلة لإضاءة الطريق للعديد من الأوراق والمراجعات للأدب الأفريقي، وخاصة أعمال تشينوا آتشيبي. كما اتخذته بعض الأطروحات الأكاديمية مرجعاً، على سبيل المثال “روايات تشينوا آتشيبي:” صورة لمجتمع ما قبل وما بعد الاستعمار، أطروحة ماجستير قدمتها الباحثة المصرية منى برنس، التي اعتبرت بطل الرواية “أوكونكو رجلا موسوما” بالحلم والخوف، الحلم بأن يصبح رجلاً عظيمًا في العشيرة، والخوف من أن يصبح ضعيفًا أو يُعتقد أنه ضعيف فيفشل مثل أبيه. في الرواية كلها، يبدو الخوف عاطفة قوية تدفعه إلى العمل. إحدى الوظائف المهمة للفصل الافتتاحي في هذه الرواية هي تجاور شخصيات كل من الأب أونوكا والابن أوكونكو، وكيف كان لشخصية الأب التأثير الأكثر سوءًا على الابن “. ومع قدوم الرجل الأبيض، بدأت الأمور تتغير بشكل أسرع، الناس والعادات، باستثناء أوكونكو. لم يتغير خوف أوكونكو وحلمه أبدًا. وسيحارب أي شيء وأي قوة تمنعه من تحقيق هذه الغاية. مع العلم أنه فقد منصبه السابق بين قومه خلال السنوات السبع التي قضاها في المنفى، قرر أوكونكو استعادة ما فقده وإعادة بناء حلمه.

أخيرا، تبقى مسألة الشكل الروائي للإبداع الأفريقي، وأرى أن (الأشياء تتداعى) تمثل عزفا على أشكال غير أوربية للسرد الروائي، وربما هي أقرب إلى إطار الحكايات في ألف ليلة وليلة، ففي كل فصل حكاية منفصلة ومتصلة، يمكن أن تستمر لألف شيء وشيء، تتداعى وتنهض من جديد، لترسم ملحمة أفريقية قائمة بذاتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.