فيلم “الطريق” لعبد اللطيف عبد الحميد.. الحياة على طريقتها

وداد سلوم – كاتبة وشاعرة سورية

“الحكمة على الطريق فمن يلتقطها”؟ وقالوا: “الطريق أهم وأجمل من الغاية التي نسعى إليها”. والطريق فيلم لعبد اللطيف عبد الحميد نال في الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان قرطاج ثلاث جوائز: جائزة الجمهور وأفضل ممثل وأفضل سيناريو وحوار،  وكان قد شارك في إعداده الشاعر والروائي الراحل عادل محمود. فماذا أرادا ان يقولا فيه؟

لا يخرج عبد اللطيف عبد الحميد  في الطريق عن أسلوبه المعتاد في تقديم عمله عبر البيئة الريفية البسيطة الغنية بالطبيعة والكوميديا التي تجذب المشاهد بتوليفتها القريبة من النفس والعفوية.

تاريخ الفيلم الذي يظهر في البداية هو الثمانينيات من القرن الماضي وهو تاريخ بعيد عن عصر أديسون لكن ما يحدث مع بطل الفيلم صالح يبدو قريباً مما حدث مع أديسون حين طردته المدرسة بحجة الغباء, إنه واقع التعليم في بلداننا الذي يأخذ أسلوب التلقين والحشو ويفصل العلم عن الحياة ليتلقى الطفل المعلومات بشكل مجرد و صعب وبقسوة وهذا ما يقتل الابداع في ذات الطفل والمراهق.

يبدأ الفيلم بمشهد الشاب الصغير صالح وهو يركض على الطريق وكأن الأرض لا تسعه، فالمراهق الذي يشعر أن الكون ضيق عليه لا يستوعب فكرة الالتزام المطلق بما يشبه سجنه خلف مقعد دراسي. يحمل صالح لجده رسالة من إدارة المدرسة تحمل خبر طرده من المدرسة لغبائه وعدم قدرته على التعلم.

يدرك الجد وهو دكتور جامعي متقاعد يعيش في بيته الريفي ويربي معه حفيده يتيم الأم، والذي لم يحتمل قسوة امرأة أبيه ,أن الرسالة التي وصلته من المدرسة مصيرية فيخفيها عن حفيده، وحين يسأله عن محتواها ينكر ما جاء فيها ويخبره العكس تماماً, وأنه عبقري لا تستطيع المدرسة احتواء قدراته وهو في الحقيقة لم يكذب فكل طفل فيه بذرة العبقرية وتحتاج من يرويها ليبدع لكن المجتمعات المريضة تقتل البذرة بعدم رعايتها.

المخرج عبداللطيف عبدالحميد

ويتعهد الجد بتقديم الدروس الملائمة له بشرط أن يجلس على كرسي ليراقب الطريق المار من أمام البيت وتسجيل ما يحدث عليه بشكل مستمر، ورغم أن الحفيد يمتعض أحياناً من هذه المهمة، إلا انه يعود إليها ويترافق ذلك مع دروسه فقد قام الجد ببناء غرفة في حقله بعد ان باع قطعة أرض ليستقدم أساتذة يقومون بتدريس حفيده يومياً فيها  ولكنه يختارهم بعناية ليعلموا صالح بأسلوب حديث يربط المعلومة بالحياة ويجعله يحب المواد التدريسية ويراها بعين التجربة والحياة.

أثناء جلوس الحفيد أمام البيت نرى معه نماذج إنسانية متنوعة تمر في الطريق، وكأن الطريق هو وعاء يحوي مزيجاً متنوعاً يعبره كل يوم، إنه الحياة التي لا تتوقف رغم أنها بلا قدمين لكن الجميع يسير فيها: فنرى الجنازات, ثم الأفراح العابرة التي لا تحتاج سبباً والشاعر الذي يتواصل مع الناس عبر ما اختزنته الذاكرة من أشعار . كما يتكرر وبشكل يومي مرور جماعة تتسلح بالعصي والرفوش ذاهبة للشجار مع جماعة أخرى لا نعرفها، ويترك لنا أن نتخيل أسباباً شتى لخلافهم معها لكنها حرب مستمرة ويومية, ليعودوا  من معركتهم دوماً, محطمين ومصابين لكنهم لا يتعلموا بل يعيدون الكرة كل يوم , فهذا الطريق الحياة يعج بالحمقى الذين يراودون اهدافهم بلا تدبير وبنفس الأساليب رغم الفشل ولا يسمعون سوى صوتهم  فيزجرون كل من يقدم نصيحة ويبادرون بالسباب , ولنلاحظ ان عددهم يتزايد كل يوم رغم فشلهم.

ولأن تلك الفترة  هي الثمانينيات فلن نخوض بإسقاطات لصراعات قديمة لم ترتوِ, ولم تتوقف وتمارس بنفس الحماقة  تركها المخرج والكاتب للمشاهد.  هناك أيضاً الأم التي أرضعت صالح في صغره بعد وفاة أمه في الولادة وأخذت على نفسها عهداُ بمنحه حليب عنزتها دائماً لنرى حنانها الأمومي والذي يشهد أن الأمومة تتجاوز الإنجاب. .

كما نرى رجلاً  يعاني من نتائج خطأ طبي, رجل مريض يومي المرور إلى حقله يسأل صالح عن قصته  فيجيبه الجد أنه القائل: (حطم سيفك واحمل معولك واتبعني لنزرع المحبة في كبد الأرض) إنه الفلاح السوري حارس حضارته  ولكنه المريض والمحني الظهر , ليعود في نهاية الفيلم إلى حال أفضل بعمليات ترقيعية اجريت له.

يتعلم صالح وينجح و يتفوق على أقرانه حتى ينال بعثة دراسية في أوروبا لدراسة طب الأعصاب. بينما أساليب التدريس التقليدية قد حكمت عليه سابقاً بالفشل المريع. يقيم الجد حين عودة صالح حفلاً على مستوى القرية  مواجهاً إدارة المدرسة بحكمها المتجني والظالم  .

الشاعر الراحل عادل محمود

قدم فيلم الطريق  مقولات في الحياة والعلم والمجتمع, لكنه لم يخرج عن أسلوب الحكاية التي تحمل النهاية السعيدة, حيث ينجح البطل ويعود الحبيبان بعد ابتعاد دام سنين طويلة.

ولو أنه ترك الباب مفتوحاً لاحتمالات النجاح والفشل لكان أكثر واقعية, كما أن المباشرة في طرح المقولة حرم المشاهد من متعة إضافية.

ينجح المخرج بطرح فكرة التواصل بين الأجيال وليس صراعها إذ يربط القديم الجيد بالجديد المتطور عبر علاقة الجد بالشاب وقدرة الجد (الجيل القديم ) على استيعاب فوضى الجيل الجديد وطاقاته و منحه الخبرة الحياتية قبل المعلومة وتوجيهه بحب وتعليمه معنى الالتزام والاهتمام وقد نال الممثل موفق الأحمد عن دوره جائزة أفضل ممثل.

أما مشاهدات الطريق والتي هي نموذج مصغر عن واقع مجتمع فقد قام الجد بجمعها ونشرها كرواية عنوانها الطريق.

الطبيعة الساحرة تتألق دوماً في أفلام عبد اللطيف, فطريقة تصوير الأشجار جميلة حدّ الإرباك  وأخذ الألباب، لنرى هذا الطريق (الوعاء الحياتي) الذي يعج بالمتناقضات والأفكار والتجارب والنماذج تكلله الطبيعة الأم وتحيطه بأسباب البقاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.