عقدٌ جديدٌ من العمر.. عامٌ على المغادرة

مزنة بلان – صحافية وكاتبة سورية

عقدٌ جديدٌ من العمر ، عامٌ على المغادرة.. وأنا أرتب السطر الأخير في عشرينات العمر ، ولعلّه السطر الأكثر زخماً وتغيير . إذ ليس هنالك من جديد إلا وحملته لي نهاية العشرينات، لتكون أكثر صخباً من بدايتها، وليكون بدوره العمر الذي أرسى سفني وحدّد وجهتي.
أجد نفسي قد وصلت في غفلةٍ منّي إلى أعتاب هذا العُمر المُربك الذي سمعت عنه الكثير ولطالما أحسسته بعيداً بعيد ولازلت!! أمسّد الشعرة التي تفصل بين آخر زهّوٍ وأول نضج دون عناية تُذكر، لأخطو إليه دونما اكتراث وكأن الزمن لم ولن يعنيني يوماً. تقذفه ذاكرتي إلى الواجهة تزامناً مع احتفالات أعياد الميلاد فقط. والتي لا أعلم ما الغاية من التهليل بها ! وما مبعث السعادة في إحصاء عمر المرء وعدّ أيامه. أهرع إلى مرآتي عشيّة هذا العيد، أتفقد ما خطّته تلك السنون في جسدي وملامحي.
تسعٌ وعشرون سنة دارت بي تزامناً مع دوران شمسٍ حملت ما يكفي من الدفء الذي يغذي الروح ومن  الاحتراق ما يبعث على المحاربة كغريزة للاستمرار. خضت فيها ما يكفي من التجارب التي لا يتعلم أحدنا سوى منها مهما سمع آراء الحكماء أو أسلافه المجرّبين.  وكما هو الحال عند كل نهاية، تكثر الأسئلة ومحاسبة الذات، وجرد ما نتج عنها من أخطاء كما من حصادٍ مثمر.
أجبر نفسي على استحضار شريطٍ سريعٍ لأهم أحداث عشرينات العمر ولا بأس بقليلٍ من أسخفها. لأتذكر مقولة ل (د. أحمد خالد توفيق) في هذا الصدد: “إن عقلك في العقد الثاني من حياتك يكون أشبه بمقلاة رخيصة يلتصق بها الطعام، أما بعد سن الثلاثين فعقلك مقلاة فاخرة لا يلتصق بها أي شيء!” لكن متعة الحياة تكمن حتماً في التجربة، وقيمتها هي في كثرة تجارب أحدنا واكتشافاته الفردية وخبراته الحياتية التي يكوّنها بنفسه، مهما بدت سطحية المحتوى وتمنّي عدم حدوثها من الأساس. والوقت أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه.. وأراه أسهل ما عليك يضيع.. لربما يجعلنا عيد الميلاد نلتفت للوقت، يأتي كصفارة حكم تنبؤ بضرورة الانتقال إلى جولةٍ أخرى في مضمار العمر المُرهق الذي نحاول عبثاً إخضاعه لعجلتنا.
تمضي أيامنا متشابهة في غالبها وعند إرادة التغيير ننصدم بأن الوقت غير مناسب ولاسيما في مجتمعاتنا المرهونة لمشيئة الزمن كما لمشيئة الحروب المستمرة عبر جغرافيا قدرية وُضِعنا بها لتعرقل خطواتنا وتثبّط أقدامنا وتحتّم علينا البقاء في مرحلة البداية بعد الظن بتجاوزها. لينصبّ تفكيرنا مع كل لحظة على عمرٍ ضائعٍ ذهب هدراً وشبابٍ استهلكته الحرب. وبحكم أنني أعود لأوائل التسعينات التي لربما هي الأوفر حظّاً من أواخرها، لكوننا رأينا وعايشنا لبضعة سنين شكل سوريا التي نحب قبل أن تغير الحرب معالمها وتحوّلها إلى بلدٍ آخر فنُدرك عندها حجم الكارثة. أو لعلّها الأسوء حظّاً في تزامن إقلاع الشباب مع خريف الوطن الذي غيّر مسارات حياتنا وأعاد هيكلة أحلامنا.  وجدنا أنفسنا دون سابق إنذار أمام مفترق طرق. فجأة بدأ كل شيءٍ من حولنا يشتعل ليُطفئ تلك الشعلة المتوهجة بداخلنا وما يترتب عنها من لهفةٍ ورغبة. كما تخبّطٌ بين السفر والبقاء اختار بعده المعظم السفر بطبيعة الحال، وتحديداً إلى الغرب “الحلم” الذي حرّرنا نوعاً ما من تأطيره وملاحقته المنهكة في مجتمعاتنا التي تضع وقتاً للتعلّم ووقتاً للزواج ووقتاً لإكمال حلمٍ سعيتَ طويلاً من أجله ولكل ما هو مصيري ويحتاج المزيد من الوقت والطاقة والتفكير لتخال نفسك في ماراثون تتصبّب عرقاً من قفزاتك الكبيرة وملاحقة العشرات خلفك لاهثين للتنافس على الظفر بما قد نصبو إليه جميعاً.
على عكس المجتمعات الغربية التي لا تكبّل أحداً بعمرٍ أو بموقف أو بحالة اجتماعية… فقد تجد إنساناً في العقد السبعين من عمره يدخل الجامعة وكأنه بدأ حياته للتو، أو امرأة ثمانينية تقود دراجة وتصفف شعرها كما ابنة العشرين. وبالرغم من أنني أتفق مع مفهوم الغرب هذا والذي يقدّس الوقت إنما دون ترتيب خطوات كل عمرٍ وحصرك فيما عليك فعله في هذه المرحلة العمرية أو تلك، إلا أن عرقنا الشرقي يدّق ناقوس الخطر لا شعورياً ما أن يلوّح شهر ميلادنا في الأفق مُنبئاً باقتراب أجلٍ ما. كيف لا ونحن شعوبٌ اعتادت على الخوف من أي شيء لتظلّ أسيرة الرهبة والترقب والقلق! الوصول إلى ألمانيا..
الحدث الأبرز الذي أختتم به عشرينات العمر ︎لدى لحظة الهبوط في مطار “فرانكفورت” الألماني أحد أضخم مطاراتها ذي التصنيف الثاني أوروبيّاً من حيث الحجم . لم أكترث عندها لشيء غير حرارة اللقاء التي تنتعش بها رئات العابرين نحو بعضهم وتضيق بها رئات المودّعين. ألقي نظرة عابرة بتأثرٍ أقرب إلى الحزن الذي يكاد ينافس فرحتي على مشاهد لعائلاتٍ مجاورة ترتدي أجمل ثيابها، بباقات ورودٍ متشابهة ولكناتٍ سورية محببة ينافس رنينها دوّي دواليب الحقائب والأمتعة التي تملأ المكان، بدموع فرحٍ بدأت تفرّ من مُقلٍ مترقبةٍ خروج الفرد المنتظر . أتأمل بحسرة حال شعبي الذي شرّدته الحرب، عائلاتٌ بأكملها باتت هنا بشيبها وشبابها ، ومدنٌ سورية قد فرغت من سكانها. لم أكترث لحجمه المهيب الذي يتوه بك بضع دقائق لبلوغ وجهتك المقصودة ولا لدقة تنظيمه وخطواته الحذرة التي تُشعرك بأنّك أحد المتورطين في قضية ما. جلّ همّي كان أن يلتمّ الشمل مع العائلة كلها بغض النظر أين. دخلت هذه البلاد بقليلٍ من طاقة العشرينات المدوّية ، ممزوجةً برصانة الثلاثينات وكآبتها ببداية الخطو نحو منتصف العمر.
   رغم كل هذا الاختلاف إلا أن دفء العائلة الذي يرافقني يبدّد غربتي ويطرد عني وحشتها               
بدأت بالالتفات لها تدريجياً ، أكتشفها ،أختبر حرارتها وأضبط ساعتي البيولوجية وفقاً لتقويمها رغم ضآلة الفارق بمقدار ساعة واحدة لصالح بقعتي الجغرافية “المتأخرة”!! بدأت بأولى خطوات الاندماج وهي بطبيعة الحال اللغة المعقدة. فيحضرني قول( نيتشه) الذي يعبّر عن لغته بقوله: “يا لعذاب من يقرأ كتباً ألمانية. يا لنفوره حين يقف أمام ذلك المستنقع الذي يتقلّب بتماهل وينضح بإيقاعاتٍ دون رقص، وأصواتٍ دون رنين، يا له من ضجر . لا يقرأ الألماني بصوتٍ عالٍ ، لا يقرأ للأذن بل بالعين. إنه يهمل الأذن وكأنه وضعها في الجارور.”.
لا شكّ أنني شعرت باستحالة تعلّمها عند البدء، لتكون أولى الصعاب التي يصطدم بها المرء على طريق الاندماج في بلدٍ يعتدُّ أهله بما يحملوه من هوية وثقافة، باديين انزعاجاً واضحاً بمخاطبتك إيّاهم بلغة أخرى كالإنكليزية مثلاً والتي يتقنها معظمهم بالمقابل. مقولاتٌ لا بدّ لي من تجاهلها حاليّاً كي أستطيع أن أحب لغتي الجديدة، أنا المهووسة بالعربية وحروفها وإيقاعها.
ها هي السنة الأولى لي هنا قد شارفت على الاكتمال تزامناً مع موعد ميلادي بفارق بضعة أيام. بلغة مازلت أحبو في وسطها، أشارك زملائي في معهد اللغة حلم إتقانها فنتبادل ثقافاتنا المختلفة كما أخطاءنا اللغوية. حاملةً طموحاتي بين أكتافي التي مازالت تتطلب هزّاً إضافيّاً لاجتياز تحدّياتٍ عديدة لا أعلم مدى قابلية تحقيقها إلا أن ما أعلمه جيداً أنني لن أتوقف عن المحاولة. في غربةٍ ليست هي الأولى، فقد اختبرت السفر مراراً حالي كحال العديد من السوريين الذين يحضر السفر في تاريخهم ومستقبلهم. حيث أمضيتُ جزءاً من طفولتي في الإمارات العربية المتحدة مع عائلتي، والآن إلى ألمانيا والحمدلله مع عائلتي أيضاً.  يُثبت فيها السفر عند كل مرّة بأنه خلاصٌ محتمل من بلادٍ تحارب أبناءها البررة بكلّ ما أوتيت من قوّة وتُرغمهم هي على مغادرتها وعقوقها. مؤسفٌ أن يخرج المرء منها غير آسفٍ على شيء. اللهمّ إلّا على ذكرياتٍ جميلةٍ لن تغادر الذاكرة وعلى حيطان بيوتٍ تشبّعت بعاطفتنا وبُنيت بحبّنا وسُقيت بماء عيوننا.
أشتاق غرفتي.. أغراضي .. أشيائي ..تفاصيلي التي لا أستطيع حملها أينما ذهبت فهي تخصّ الوطن..  “الوطن وحده” بيتنا الجميل المريح الحميمي.. حديقتنا وشرفاتنا بورودها وأشجارها التي ستقاوم الذبول والاصفرار.. قلوباً مُحبّة صادقة رغم نُدرتها في هذا الزمن الرديء المنافق. لم يمضِ الكثير من الوقت على مغادرته إلا أن شوقٌ وحنينٌ يصعُب تجاهله لأماكن هجرتها ولن تهجرني. ولربما يُعزى اشتياقنا للأماكن إلى اشتياقنا لذواتنا القديمة وشكل حياتنا القديمة فيها بمعزلٍ عن رمزية  الأماكن، التي من الاستحالة استعادتها أو استعادة ذلك الزمن لنظلّ أسرى الحنين والذكريات، نحن الشعوب المكبّلة بالعاطفة ولعنتها. حياةٌ جديدة أبدأها مع عقدٍ عمريٍّ جديد في بلادٍ جديدة، ليكون أهم حدث أختم به عشرينات العمر. أرفع نخب انقضائها بأقل الخسائر الممكنة، مُعلنةً النجاة من تهوراتها الطائشة. أرفعه لحياةٍ سأجعلها فرصةً للاستمتاع بالتعرف على شعوبٍ قد تكون أفضل من شعوبنا التي ظنناها طويلاً طليعة الأمم. أفتح باب غربتي يومياً بكل الحب والأمل، أشرّع نوافذي الجميلة المُطلّة على طبيعة ساحرة ليست لي وتطوّرٌ لم أعهده في بلادي، وأناسٌ يجهلوني مثلما أجهلهم. أتأرجح في شوارعها الأنيقة، وتعتاد رئتاي هواءها البارد الرطب بدلاً من نسائم البلاد الحارة الجافة. جهدٌ إضافيٌّ تبذله حواسي بصراً وسمعاً ونطقاً لأعود طفلة تتعلّم الحبو من جديد. ورغم كل هذا الاختلاف إلا أن دفء العائلة الذي يرافقني يبدّد غربتي ويطرد عني وحشتها، ليكون الوطن فعلاً حيث هم الأهل والأحبة.
* لوحة الغلاف للتشكيلية السورية سعاد مردم بك
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.